لم تعد في هذا البلد المأزوم والمنكوب محرمات الا وارتكبت، ولا خطوط حمراء إلا وتمّ تجاوزها وانتهكت، ولا حقوق طبيعية وانسانية كانت تراعى في عصر الجاهلية، إلا وهتكت واستبيحت، أما الحلال والكرامة والعنفوان فحلّ محلّهما الفساد والذل والهوان.
إنه ثالوث المنكرات والموبقات والانحرافات، يطيح بالقوانين الوضعية، ويقفز فوق الرسالات السماوية، ويسنّه الواضح والصريح في الدستور، جحيم مفتوح بأكل القيم وبهدر المبادئ، اما العدالة وهي ملح الارض الضامنة للحريات والحقوق فسدتها غائبون عن محرابها، وباتوا في موقع الشاكي من سوء وبؤسه، يرفع مظلمته الى المشكو منه، لانصافه بدل ان يساق امامهم الى العدالة.
وعلى الرغم من هذا وذاك وذيّاك. فالسكوت عن المظالم مطبق والصمت رهيب في الليل البهيم، اما التعالي عن الواقع المفجع والأليم، فآفة اصابت الراعي والمسؤول والحكيم.
مسلسل درامي طويل تبث حلقاته على مدار الساعة، فلا نتوقف ولا تستكين ومحورها «شعب لبنان العظيم» الذي يقذف في العذاب الهين، على مذبح «السلطان» القوي والحكام والزعماء «الميامين» مشاهد تقشعر منها النفوس والابدان ومن هولها يضطرب ذوو النهى واولوا الحكمة والألباب. تفوق فيها المخرج على عباقرة هوليوود في الفن السابع تجسد في عدسته معاناة شعب لبنان.
نعم لقد دخل لبنان على ايدي المنظومة الحاكمة الى التاريخ من اوسع ابوابه، واصبح مضرب الامثال في المعمورة ومن المحيط الى الخليج، فانتصر على «جنس الملائكة» وفاز على «عنزة ولو طارت» ناهيك عن الهزيمة التي الحقها بـ«برج بابل».
إن هذه المنظومة الحاكمة، تفوقت وفازت وانتصرت، وباتت «أمجادها» بارزة في صفحات موسوعة غينيس، مؤهلة للحصول على ايرادات الاختراع، وكيف لا والبدع الدستورية صناعتها، والميثاقية من بنات افكارها، والقوانين بين يديها، لأذن الجرة بين اصابع الفاخوري، تقلبها حسب المصالح والاهواء.
أما الملفت والجديد، فهو عن «الرّمز» الرئيس الذي ظهر فجأة على الساحة السياسية وكأن الشغور الرئاسي الذي ادى الى الفراغ في سدة الرئاسة واطاح بالرئيس الرّمز، امر مستجد وغريب ولا سابقة له في سجل «الاصلاح والتغيير».
ترى: من ذا الذي أعدت في أدبياتنا السياسية صناعة الفراغ والشغور؟
ترى: من ابتدع الميثاقية وانقلب عليها؟
ترى: من حمل لواء الثلث المعطل عند تشكيل الحكومات؟
ترى: من أوقف التشكيلات القضائية لغايات ومآرب معلومة؟
ترى: في عهد من انهار الاقتصاد وتدهورت العملة الوطنية واغلقت المؤسسات الرسمية واضرب الموظفون وغابت العدالة بسابقة خطيرة لم تشهدها دول الموز باعتكاف القضاة.
اسئلة لا تحتاج الى الاجابة، فوقائعها شاهدة، وفي الاعين ماثلة، وكلها ساعة طالعة واخرى نازلة، وهي تحمل النقيضين والوجهين، وعلى سطح واحد تجمع الفصلين، فعن الميثاقية لم ينسَ اللبنانيون الحكومة العسكرية برئاسة الجنرال ميشال عون حيث استمرت بعد استقالة الوزراء المسلمين، فانتفت معالم العيش المشترك وسحق الدستور.
وحدّث ولا حرج عن الشغور ورمزية الوضع الرئاسي، فالشغور الرئاسي لفترة تجاوزت السنتين ونصف السنة، كان جائزاً لدى التيار الوطني ورئيسه، وذلك تحت نغمة «القويّ في بيئته» ولم تنبت خلالها الرؤوس الحامية ببنت شفة للحديث عن الرئيس الرّمز، كما هو الحال الآن، ففي حينها لم يكن للموقع الرّمز قيمة، اما اليوم فهو خطير ويستوجب النداء بالثبور وعظائم الامور، ويا غيرة الدين..،
واخيراً لن نخوض في الكشف عن النوايا وما تخفيه الصدور، فهي تظهر كما يقول الإمام علي كرّم الله وجهه «ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وما خبث ظاهره خبث باطنه».
لذلك لن نعلّق على كلام الصهر جبران في حديثه عن الرئيس الرّمز، وربطه خارج سياق الشغور، بطرح اللامركزية، وتبعه عمّه الجنرال بعبارة «الكلام غير المباح».
* المدير العام للأوقاف الإسلامية ورئيس هيئة أوجيرو سابقاً