قالوا عنه انه حامل المئة بطيخة، والعامل على حل مئة مشكلة وقالوا عنه انه متعهد التوسط والوساطات وإعادة المخطوفين واطلاق السجناء وصاحب المبادرات والمهمات التي لا تنتهي.
منذ السادسة صباحاً كان يصل الى مكتبه يوقّع البريد، ويطّلع على التقارير التي ترده من مراكز الأمن العام، وبعدها تبدأ المهمات السياسية والأمنية وما أكثرها بدءاً بالتسويات التي تراوح بين الخلافات الرئاسية والتي تعطّل عمل الحكومة والدولة بين الحين والآخر، مروراً بترتيب أمور عودة اللاجئين السوريين مع السلطات السورية، وإطلاق سراح السجناء وتحرير المخطوفين بدءاً من مخطوفي اعزاز وراهبات معلولا ومخطوفين آخرين من جنسيات مختلفة تم اختطافهم طلباً لفدية مالية... هذا غير كشفه العديد من شبكات التجسس والعمالة وعدا العلاقات التي أقامها مع مسؤولي المخابرات في دول عربية وأجنبية حتى ان بعض هذه الدول أقامت له حفلات تكريم وعلقت الأوسمة على صدره.
هذا هو اللواء عباس إبراهيم، الذي غادر المديرية العامة للأمن العام أوائل شهر آذار الماضي بعد أن تربع على عرشها أكثر من 13 عاماً. غادرها وسط دموع رفقائه من الضباط الذين عملوا معه.
ومع ان اسمه عباس، فان العبوس لم يتطرق الى وجهه يوماً حتى في أقسى المهمات وأصعبها، متواضع على كبر، يعمل بصمت، لان الوقت عنده هو للعمل وليس للكلام.. صاحب شخصية محببة الى القلب، صادق في عمله يغلب الناحية الإنسانية على ما عداها، مبادر، ذكي، تحركه الدوافع الوطنية والإنسانية والأخلاقية، عسكري حازم، دبلوماسي هادئ هو رجل المهمات الصعبة وربما المستحيلة.
ولم يكن غريباً على الرجل الذي ذهب تكراراً الى اعزاز لمعالجة قضية المخطوفين، وقبلها الى معلولا لحل مشكلة الراهبات المختطفات لدى «داعش» و«النصرة».
وكان قد سبق الفجر لترتيب إخراج عملية «فجر الجرود»، وكم حملته مهماته التي تراكمت الى تركيا وقطر وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة ورومانيا وإيران؟ دون أن يبخل بلحظة من وقته للاهتمام بالمديرية التي يتولاها في الأمن العام، فإذا بهذا الجهاز الحساس من أنجح مؤسسات الأمن في لبنان.
وسط الصورة القاتمة السوداء في لبنان كان اللواء عباس إبراهيم يضيء شمعة في عتمة هذا الوطن، وفي زمن الشحّ والقلّة والتجاذبات وعدم المسؤولية كان هناك من يحقق نجاحات، وفي مجتمع مشحون بالأخبار السيئة والسلبية يظل هناك متسع لأخبار جيدة وإيجابية.
ان كل مبادرات ومهمات اللواء إبراهيم من تحرير مخطوفي أعزاز وراهبات معلولا مروراً بالكشف عن مصير العسكريين المفقودين في عرسال والسعي إلى معرفة مصير المطرانين المخطوفين، وصولاً إلى تحرير نزار زكا من سجنه، واكتشاف العديد من شبكات التجسس والعمالة للعدو، كانت تتمحور حول مفهوم الإنسان والحرية، كونه يرفض أن يظل لبنانياً أو غيره بريئاً قيد الأسر والاحتجاز خارج وطنه.
لا يستكين ولا يهدأ له بال إلا متى تحرر الذين يقبعون ظلماً أو قهراً في معتقلات وسجون، ولم يميّز يوماً بين لبناني وآخر ولم تدخل في حساباته المناطق والطوائف وإنما كان عابراً لها.
عباس إبراهيم رجل دولة متميز يتحلّى بحسّ وطني وروح إنسانية، رجل أفعال ومبادرات لا رجل أقوال ونظريات، يكفي أن نرى مسؤولاً يعمل بجدّ وصمت وسط هذه المعمعة من التخبط والخلافات والتجاذبات، في حين يغرق المسؤولون والسياسيون في متاهات وسجالات سئم منها اللبنانيون وملّوا وكفروا، ينصرف اللواء إبراهيم إلى العمل الهادف والمنتج وفي كل الاتجاهات وعلى كافة المستويات، ويخوض كل أنواع المهام والمفاوضات، من المفاوضات الهادفة إلى تحرير سجين أو أسير، إلى المفاوضات الهادفة إلى ترسيم الحدود الجنوبية البرية والبحرية، أو تلك الهادفة إلى إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم. لا يأبه اللواء إبراهيم للمشاحنات والمناورات السياسية ولا يقع في فخ الاستدراج، لا يسمح لمؤسسة الأمن العام أن تدخل في السياسة كما لا يسمح للسياسيين أن يتدخلوا بها، ولاؤه للوطن وقضيته الإنسان في هذا الوطن.
يظل في حركة لا تهدأ ولكن من دون ضجيج وغبار بينما آخرون كثيرون يغطّون في سبات عميق أو يخوضون معارك جوفاء لا طائل منها... وهكذا يمضي قدماً ويقطع أشواطاً في بناء مؤسسة أمنية نموذجية في أدائها وإنتاجيتها وحيويتها وتفاعلها مع الناس بينما مؤسسات كثيرة في الدولة تعاني من الفساد والركود وتفتقد إلى ثقة الناس بها...
اللبنانيون كما لو أنهم أصبحوا سجناء في السجن اللبناني الكبير، ورهائن العصبيات والغرائز والفساد والتسلّط وباتوا في حاجة إلى مبادرات ورجالات ومن يحررهم ويخرجهم من هذا الواقع المرير...
عباس إبراهيم الذي أبعدته السياسة عن مركزه كان يجب أن ينال وسام الوفاء والإنسانية ويتم التمديد له في وقت يحتاج فيه لبنان إليه والى أمثاله من المخلصين للوطن... ولكن لعن الله السياسة التي لا تعمل إلّا لما فيه مصلحتها بعيداً عن مصلحة الوطن ويكفي عباس إبراهيم فخراً انه دخل الى المديرية العامة للأمن العام كبيراً وخرج منها كبيراً...
قال كلمته ومشى وكأنها كلمة الرثاء الأخيرة في جمهورية تكاد تلفظ أنفاسها وفي وطن طالما كان نموذجا تحاول كل الدول تقليده فأضاعه حكامه بخلافاتهم وانقساماتهم وفساد أكثريتهم حتى أوصلوه الى آخر قعر في جهنم وهم يقهقهون ويضحكون... يا امة ضحكت من جهلها الأمم... لا تغفر لهم يا أبتاه لأنهم يعرفون ماذا فعلوا وماذا يفعلون...
* نائب رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان