بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 آذار 2025 12:00ص خالد السيد: وحش الشاشة ورمز الزمن الذهبي

حجم الخط
شربل الغاوي*

حين التقيت بالممثل الكبير خالد السيد، شعرت وكأنني أمام أسطورة حيّة تنبض بالتاريخ والإبداع، أسطورة تشكّلت عبر عقود من الأداء الفريد. نظرت إليه مباشرة وقلت له بفخر: «أنت وحش الشاشة». لم يكن هذا مجرد تعبير عابر أو مجاملة عادية، بل كان شهادة أطلقتها بإيمان كامل على موهبة نادرة أبهرت أجيالاً متعاقبة. خالد السيد ليس فقط أحد أعمدة الدراما اللبنانية والعربية، بل هو رمز خالد لفن أصيل صنع حقبة ذهبية لا تُنسى.
بشخصيته الرزينة وحضوره الآسر، أعاد خالد السيد تعريف مفهوم الممثل، فهو ليس مجرّد مؤدٍّ، بل صانع شخصيات حقيقية تعيش في ذاكرة المشاهدين طويلاً بعد انتهاء المشهد الأخير. كل دور أدّاه كان بمثابة قطعة فنية منفردة، تحمل بصمة فريدة تعكس عمق موهبته وقدرته على تجسيد أدق التفاصيل النفسية للشخصيات التي يلعبها.

رحلة خالد السيد بين أدوار الشر المعقّدة
مسلسل «الهيبة»: غازي وصراع الإنسان مع السلطة والطموح

في مسلسل الهيبة، الذي يُعدّ من أبرز محطات الدراما اللبنانية والسورية، جسّد خالد السيد شخصية «غازي»، رجل يختزل وجوده في السعي للسيطرة وامتلاك كل شيء. غازي لم يكن مجرد طامح في السلطة، بل كان نموذجاً مركباً للطموح الجامح الذي يدفع صاحبه نحو الهاوية. خالد السيد أضاف للشخصية بُعداً إنسانياً عميقاً، حيث جسّد ببراعة التناقض بين مظهر القوة الزائفة والهشاشة الداخلية التي تعكس ضعف الإنسان عندما يتملّكه جنون السيطرة.
غازي كان حاكماً مستبدّاً ظاهرياً، لكنه في قراراته كان يتأرجح بين تأثيرات المحيطين به وضعفه الشخصي. اعتمد على المنافقين الذين أحاطوا به، مما أظهر بوضوح صورة الإنسان الذي تغلبه الأوهام والمجاملات. أداء خالد السيد في هذا الدور لم يكن مجرد تمثيل؛ بل كان كشفاً نفسياً للثمن الذي يدفعه الطامح عندما يستهلكه هوس السلطة.

مسلسل «نقطة انتهى»: عزام وإزدواجية الأخلاق

في «نقطة انتهى»، تألّق خالد السيد بدور «عزام»، شخصية تتقن لعبة الأقنعة. ظاهرياً، كان عزام رجلاً متديّناً مسؤولاً عن تغسيل الموتى، يُثير في نفوس من حوله احتراماً وخشوعاً. لكن خلف هذا القناع، كان يختبئ عالم مظلم مليء بالإجرام والتجارة غير المشروعة. عزام لم يكن مجرد شرير عادي، بل كان تجسيداً حيّاً للنفاق الإنساني، حيث عبّر عن الانفصال المرعب بين الظاهر والباطن.
ما ميّز أداء خالد السيد هنا هو قدرته على التنقل بسلاسة بين وجهين متناقضين للشخصية. في لحظة يظهر كرجل ورع، وفي اللحظة التالية يكشف عن ملامح وحش يزدهر في الظل. هذه الإزدواجية جعلت الشخصية تثير الرهبة في نفوس المشاهدين، وفي الوقت ذاته تعكس إعجاباً كبيراً بقدرة السيد على تجسيد هذا التناقض بحرفية مذهلة.

مسلسل «لغز الأقوياء»: ناهي وخطف البراءة

في «لغز الأقوياء»، تخلّى خالد السيد عن أي قيد من قيود الرحمة ليقدّم شخصية «ناهي»، الرجل الذي لم يتردد في اختطاف الأطفال من أحضان أهاليهم. ناهي لم يكن مجرماً تقليدياً، بل كان وحشاً إنسانياً تجسّد فيه أقسى مظاهر القسوة والجشع. خالد السيد تجاوز السطحية ليقدّم دراسة عميقة عن طبيعة الشر المطلق، ذلك الشر الذي يتغلغل في دوافعه وأسبابه.
أداء خالد السيد في هذا الدور كان صادماً ومؤثراً على مستويات متعددة. ناهي كان رمزاً للوحشية، لكن خالد السيد لم يكتفِ بجعل المشاهدين يكرهونه؛ بل جعلهم يتساءلون عن الظروف التي تُحوّل الإنسان إلى مجرم بهذه القسوة.

رمز الزمن الذهبي

خالد السيد ليس مجرد ممثل بارع في أدوار الشر، بل هو فنان شامل يمتلك قدرة استثنائية على تجسيد الشخصيات المتنوّعة بسلاسة وإتقان. أعماله مثل مسلسل «كل الحب كل الغرام» و«رصيف الغرباء»، وأفلام «عودة البطل» و«إيّام اللولو» وغيرها الكثير، تمثل جزءاً من الزمن الجميل للدراما والسينما، حيث قدّم شخصيات عميقة تجمع بين الإنسانية والجاذبية.

وحش الشاشة وسيد الأداء

لم يكن لقب «وحش الشاشة» مجرد وصف لخالد السيد، بل شهادة على موهبة استثنائية نادرة. هذا الفنان البارع لم يكن مجرد ممثل ينقل النصوص إلى الحياة، بل كان غواصاً في أعماق النفس البشرية، يلتقط تناقضاتها وصراعاتها ويجسّدها بصدق مذهل. أثره امتد ليصبح مصدر إلهام لأجيال متعاقبة من الممثلين والجماهير، ليبقى خالد السيد رمزًا للفن الذي لا يُنسى.
اليوم، وبعد عقود من العطاء، يظل خالد السيد رمزاً خالداً في عالم الدراما اللبنانية والعربية. أدواره ليست مجرد شخصيات عابرة، بل هي انعكاس لحقائق إنسانية عميقة ستظل محفورة في الذاكرة الفنية. إرثه هو مدرسة في التمثيل ودليل على أن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يلمس القلب والعقل معاً.
خالد السيد، وحش الشاشة ورمز الزمن الذهبي، هو أسطورة لن تتكرر، وأيقونة ستظل تضيء سماء الدراما لسنوات قادمة.

* ناقد سينمائي