بيروت - لبنان

اخر الأخبار

آخر الأخبار

2 أيلول 2021 10:59م إشكالية فهم المنطق الهندسي الخفيّ في الكعبة فنياً

حجم الخط
تحاكي طقوس الطواف حول الكعبة الريشة عند الفنان المولع بالالتفاف الحركي حول المحور البصري الذي يحدده كمحور أساسي يستقطب البصر ويثير الذهن، وبرمزية تعبيرية تمثل حضارة كونية تعتمد على مفهوم المكعب أو المربع، والاستقرار النسبي أو الجزئي على الأرض، مما يدفعنا نحو البحث عن توصيف هذا البناء الذي يتم رسمه من قبل الكثيرين من المولعين بالتطلع نحو ما ورائيتها أو مفهومها أو حتى ماهيتها، لأنها في قلب العالم الدنيوي وألوانه المختلفة وفق زواياها ونقاطها الأساسية. إضافة الى الركائز الأساسية للون الأسود وما تجسّده كافة الألوان من أهمية في توجيه البصر نحوها، والخضوع لحركة الطواف التلقائية، وما تمثله من دمج ديناميكي له أبعاده الكونية منذ بداية الخليقة حتى الآن. فالمفهوم اللوني للكعبة في الكثير من اللوحات يدفع أكثر إلى التأمّل والعودة الى القلب، وبالتالي العودة إلى الذات. وبعقلانية تقدّمها الزوايا المشبّعة بالعمق الهندسي وتجانسه على الرغم من المساحة أو محيط الكعبة والرؤية لها من زوايا مختلفة، وبفن ذي معتقد توحيدي له مذاقه النفسي الخاص، بتوازن بين بساطة المربع وتعقيدات زواياه، أي بوجدانية وعقلانية، مما يجعل من فضاءاتها تتوازن على الأرض، وبمغناطيسية لا تفقه الريشة أسبابها تماما كالذي يطوف حولها حافي القدمين كذلك تطوف الريشة مع الألوان، ويطوف البصر مع الأبيض والأسود وقوة التناقض بينهما أو الحرارة والبرودة وقوة الاحتراق والتلاشي والنبض الجمالي الجاذب للحس الفني. فهل الشكل الهندسي للكعبة يسمح بالكثير من الإسقاطات المتخيّلة أثناء تأمّلها في الفن التشكيلي تحديداً؟ أم هي مجرد رسومات تندفع من يقين إسلامي بحت؟ أو هي عقلانية التحليل البصري وما يتبعه من تساؤلات نحو جغرافية الأشياء ووجودها؟

يسعي الفنان بشكل عام الى توجيه الانتباه الى مؤثرات الكعبة البصرية التي تخلو من معنى روحي لا يمكن تفسيره، فيحاول تحويل الرموز إلى ألوان اهتزازية تشير إلى الضوء وأهميته للكعبة. ليؤسس توافقات وتناقضات تتعلق بمسألة الفعل الحركي اللاإردي للإنسان في الكعبة، وللريشة على مساحة اللوحة، وبمهارة تمثل في بعضها الإتجاهات المتوحدة والمتباينة مع المظهر الخارجي للكعبة، وبحركة تنشط عند بؤرة يحددها لتلامس مرئيا الفراغات وأهميتها، التي تهدف الى إكتشاف النسيج الهندسي وإيقاعاته القادرة على إذابة الفواصل، وباستمرارية الطواف مع الريشة المؤثرة على الألوان الباردة، وكأنها الأطياف المتمائلة مجازيا مع ماديات الأشياء من حولنا، بتوليف يجمع بين البارد والحار، وبين الحركة الإيقاعية والسكون وفقا للطواف اللانهائي، الذي يشكّل لونيا في أغلب اللوحات ان لم أقل معظمها المربع وزواياه والفهم الفلسفي لذلك، والتعددية اللونية التي ترمز الى التوحد مع الذات والقوة النشطة للبصر المتوافق مع قوة التحليل العقلاني لإيقاع الأشكال الجامدة والمتحركة على الأرض. فهل تتوافق هندسية الكعبة في الفنون التشكيلية ومعانيها الوجدانية التي تنبثق من أساسيات الضوء والعتمة والأسود والأبيض والدائرية المتناهية افتراضيا مع المربع وكينونته المادية أو الوجودية؟

تمثل الألوان في الكثير من اللوحات وأبرزها لوحات الفنان السعودي «أحمد البار» الذي يغمس الأطياف اللونية المتنوعة دون أن يتخذ من الأنماط شكلا ثابتا وفق تراكيب إيقاعية منسجمة مع بنية مفهوم الكعبة فنيا، وأيضاً لوحات الفنان السعودي «أحمد مطر» وفكرة مغناطيسية الدوران وقدرته على توليد مغناطيسية الأشياء نحو البؤرة الأساسية وفق أبعاد المسافات بين الجزء والجزء، لتطوير مسارات الفراغات من خلال المتخيّل الابداعي في أعماله التي تمنح الطواف ماهية تعبيرية روحية، فيزيائية تتفاني معها ماديات الخطوط، لتصبح أكثر تجريدية من الأشكال الأخرى المعروفة في هذا الفن الذي يثير لذة الإكتشاف من خلال فكرة المغناطسية والتقاط الاختلافات التي تمثل الكل والجزء والتلاشي، وأيضا لوحة الفنان البريطاني «إدريس خان» وما وراء المفاهيم التي يحاول بثّها تساؤلاته فنيا، وأيضا «نصرت جهان نازلي» من بنغلادش والعاطفة المتحررة من ثبات الأشياء من حولنا محاولة إثارة التفكير برسومات مبنية على المواد المتنوعة للتعبير الجمالي عن استمرارية الحياة، بجرأة تبحث من خلالها عن الحقيقة الخالدة لروحية الوجود أو معنى الذات من خلال الطواف مع الألوان وغيرهم من الفنانين الذين يجسّدون من خلال الفن التشكيلي حقائق مشاعرنا واتصالنا اللانهائي بالمصطلحات الفنية وإشكالية فهم المنطق الهندسي الخفي في الكعبة فنياً، وما تمثله من أهمية في الفن التشكيلي تحديداً أو حتى الفن المفاهيمي وأشكال رغباتنا الأخرى المؤدية إلى إيجاد توازنات بين البنى المورفولوجية، والعناصر الرمزية للمقدسات التي تستند على التضاد والتشابه، وطرائق الحركة وسكونية الأبيض عند الأسود ومشتقاته غير المرئية، الذي يثير نوعا من الخشوع الضوئي المستقر في الأسفل والأعلى حتى في اللوحات والأعمال الفنية التي تلتقط هذه الذبذبات الضوئية، إن في الألوان أو الخطوط والأشكال من زوايا مختلفة، ومن عدة معايير وعدة اشكاليات بصرية تدفعنا إلى التأمل بشكل أعمق نحو الداخل، وهذا يمثل الخروج من مفهوم الفرد نحو الجماعة أو التكاثر الطيفي للألوان حد الذوبان والتلاشي مع الأسود بشكل عام.

تجسّد الكعبة بزواياها العودة الى الشكل النموذجي أو المثالي هندسياً، والقدرة على الاحتفاظ بالمعنى الذاتي للايماءات الحركية التلقائية للألوان كافة دون إستثناء، لهذا لم نجد في الفن التشكيلي أي تغيير للون الكعبة أو حتى في اسقاطات نقاطها الأساسية، لأنها تفقد للعنصر البصري الجاذب لها في حال تغيير لونها أو نقاطها أو حتى طواف الألوان حول الأسود ورمزيته وطبيعته المتفردة في الحث على التخييل الحي. والبحث عن الأساسيات في المادة الملموسة والمحسوسة، والأخرى الحدسية الناتجة عن قصة سيدنا إبراهيم وبناء البيت وقصة ابنه إسماعيل أو حتى للبحث عن الأسس لبنية هذه الطبيعة الرمزية المكللة بفيض قدسي يستقطب حواس ريشة تبحث عن وجودها من خلال ما ترسمه من أحاسيس تترجم قوة الشكل بين الألوان والخط ومعانيه بين الاتصال والانفصال والتوحد، كما تترجم الزوايا والنقاط وأهميتها في منح الشكل هيبته أو قوته الوجودية، وبالتالي يتخذ التمثيل المجازي للكعبة المنحى الإنساني الأكثر حيوية في أسلوب الطواف الدائري أو الكوني المتشكل في أساسيات الخطوط والألوان في أكثر اللوحات، وضمن سياقات جغرافية وتاريخية وأخرى دينية والأهم من كل ذلك إيمانيا بالنسبة للفنانين المسلمين وعقلانيا بتجرّد بالنسبة للفنانين الآخرين، ومن منظور الحركة والسكون أثناء الطواف حول الشكل الهندسي الثابت والمتحرك أو المادي والمحسوس، وبهذا تختلف مقاييس الجمال في لوحات تم رسم الكعبة فيها من شخص لآخر ومن مؤمن لآخر. فهل من سلطة بصرية للكعبة على الذهن عند الطواف حولها من خلال الريشة والألوان ؟

يتلمس الفنان مبادئ التكوين الهندسي أثناء رسمه للكعبة، كما يكتشف البُعد الهندسي لها وللألوان من حولها ومن نسب العلو والانخفاض والمؤثرات التي تنبثق عن ذلك، ولا يمكن تجاهلها وان اختلفت الهوية الفنية فيما بينهم. إذ يمكن التمييز بين الكلي والجزئي والخطوط الوهمية المنتظمة نظراً لأن حركة الطواف شبيهة بحركة دوران الأرض وبتساوي بين الأطياف اللونية وشفافيتها. مما يعكس حقيقة وجود الكعبة من خلال التفكّر والتأمّل بخصائصها الفيزيائية وكينونتها التي تدفع الفنان الى رسمها بغض النظر ان ارتبط أو تقييد بالقاعدة الذهبية أم لم يتقيّد بها، فالموازيات البصرية في لوحات الكعبة هي احداثيات تلتقطها الأحاسيس القادرة على تتبع حركة الطواف حقيقة أو عبر الريشة التي ترسم وان بشكل تعسفي إلا انها لا تستطيع مفارقة ما يتوافق مع العوالم المادية لها والأخرى غير الملموسة أو الأحرى المحسوسات البصرية وتغيّراتها ضمن الأبعاد الضوئية والأخرى المتشابكة مع نظام زوايا المربع وبعض نواحي الخطوط الأخرى التي نعيد من خلالها اكتشاف جغرافية مكان الكعبة وتطور الحركة حولها بين الثابت والمتحركة وقوة الساكن ضمن محور الضوء والألوان الفواتح منها والداكن. فهل اللوحة الفنية التشكيلية للكعبة تحمل فلسفة جمالية ذات مفاهيم رياضية تتعلق بالمبادئ العامة لفعل الانجذاب نحو المصدر أو الأساس أو النقطة؟

يشكّل اللون الأبيض في لوحات تمّ رسم الكعبة فيها الى المساحات المفتوحة نحو المطلق أو لا نهائية الأشياء المحسوسة بعيداً عن ماديات الخطوط وقوتها في إيجاد الكثير من الايقاعات البصرية المؤدية الى الاستكشاف والبحث لمعالمها الخفية الأخرى. إذ تستدعي اللوحات غالبا الحس للبحث عن المعرفة في سياق طاقة الألوان وزخم الطواف العفوي والتلقائي عند الوجود أمام شكل الكعبة تحديداً، فلا تستطيع الريشة تخصيص العامودي دون منحه ليونة دائرية نسبيا وبمؤشرات لا تعقيد فيها بصريا وإنما من خلال التفكر في تقنية وجودها أو رسمها بمختلف الأساليب أو بمختلف الوضعيات فضلا عن المستوى الفني وتقسيماته النسبية في كل اللوحة والذي يتبع أسلوب الفنان نفسه وخاصيته في رؤية الكعبة ان بشكل تجريدي أو هندسي أو تعبيري وما الى ذلك إلا انه لا يستطيع تجاهل النقاط المرتبطة في تكوينها وان حاول ذلك، لانها في حال وجود أي خلل تفقد معناها الهندسي وبالتالي تفقد توازن طواف الألوان حولها.

لا يمكن لكل هذا الجمال القائم في لوحات تمّ رسم الكعبة فيها وفق القواعد المتعددة المتعارف عليها، وغير المتعارف عليها وما أقصده تلك المتحررة من قواعد الرسم، لكنها لم تستطع التحرر من هندسية المربع والزوايا القائمة على الفكرة الثلاثية الأبعاد السابحة بصريا في المتخيّل الموجود على الأرض، والذي ينبثق عنه مفهوم طواف الألوان الذي تبرهن عنه عدة لوحات تمثل الكعبة فيهم المركز والثقل البصري الأساسي والمتسامي ميتافيزيقيا بعيداً عن شروط الالتفاف الحر أو الفطري حيث يدفع الشكل الى الحركة، وبالتالي الى الثابت والمتحرك، فالكعبة تستمد جمالياتها من جغرافية البؤرة أو نقطة البدء بالانطلاقة التلقائية عبر مناخات فنية ذات ديناميكية جريئة استثنائيا لإيجاد الوعي الهندسي وفق الأبعاد البصرية الفريدة في رسم الكعبة تحديداً لما لها من مصطلحات تسمح بالتعبير عن وجودها وحدودها ومعانيها ومؤثراتها، وحتى انعكاساتها على مفهومها في الفن التشكيلي، وفي الفن المفاهيمي المعاصر من ناحية خاصيتها الإسلامية، وخصوصيتها الهندسية التي تشكّل العمق الفني ومؤثراته التي تقود الى رحلة طواف الأبيض حول الأسود أو رحلة الشك والإيمان نحو خلود الروح وتعلّقها بوحدانية الله.