بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 آب 2022 12:00ص سيكولوجية الشعب اللبناني

حجم الخط
تحدثنا في مقالة سابقة عن غضب اللبناني اليوم أمام ما يواجهه من أزمات متتالية وصمته في ظل كل ظروف الموت المحيطة به وحاولنا أن نفسّر للقراء أن هذا الصمت ما هو إلا حالة من «الغضب السلبي» الذي لا يستطيع أحد أن يرصده ويشخصه إلا المتخصصون في مجال علم النفس لانه يدخل تحت ما يسميه العلماء والمحللين بـِ «الآليات النفسية الدفاعية» و«المقاومات» وطبعاً كمختصة نفسية لا يمكن أن أتناول موضوع كهذا وأكتفي بشرحه من خلال مقال واحد فقط لأنه موضوع واسع ولقد طرح أهم علماء النفس نظرياتهم حوله بعد دراسات وابحاث ضخمة لثورات الشعوب وصحتهم النفسية الجماعية وايضا الفردية،و ما سأطرحه في هذا المقال سيكون مجرد محاولة لفهم ما نعيشه اليوم.
لقد ذكرت في المقال السابق الغضب وقلت نعم، نحن الأكثر غضباً ولكن لسنا الاقل تعبيراً !و قمت بتفسير الصمت الملحوظ عند كل اللبنانيين بايجاز كما السلوكيات «البعيدة عن الحالة الانفعالية الطبيعة التي تعبّر عن الشعور بالغضب».
وهنا السؤال يطرح نفسه على المستوى الفردي لكل لبناني: لماذا اللبناني يشعر بالغضب السلبي وليس بالغضب الطبيعي كما عرّفناه سابقاً؟!
أوّلاً،إن صدمة انفجار المرفأ،هي صدمة جماعية وأي انسان يتعرض لاي صدمة ستؤثر في سلوكياته وطريقة غضبه وشكل انفعالاته والبرودة واللامبالاة من أهمها.  كما أن أي شخص مصاب بالاحباط والاكتئاب النفسي عندما يبلغ اعلى درجات اليأس فهو «ينسحب إجتماعيّاً» أي أنه يفضل العزلة والبقاء وحيداً بعيدا عن الانظار دون أدنى رغبة بالتحدث إلى أحد وهنا من غير الضروري أن يكون الشخص المصاب مدرك لما يعاني منه وهذا المثال ينطبق تماما على حالتنا اليوم،من منا يفكر أن يعترض في وجه من هم سبب الازمة في لبنان؟ لماذا التظاهرات الخاصة بثورة ١٧ تشرين انتهت مفاعيلها سريعاً كأنها حدث عادي؟
لاننا وبكل صراحة وكما هو معروف أصبحنا شعباً فاقداً للامل بالتغيير منذ سنوات لا بل منذ أجيال ونؤمن بالغياب التام للدولة وأنّ هيمنة الاحزاب هي من سيقرر مصيرنا مهما حاولنا أن نثور..و لكن ما الّذي دفعنا للثّورة من الاساس ومن ثم للتراجع والرضوخ مجدداً للأمر الواقع؟
إنّ ثورة ١٧ تشرين بدأت عفوياً جراء اهمال السلطة المتمادي وقد نزل الى الشارع مواطنون عاديون ,ينتمون إلى جمعيات أهلية ومدنية وانضم الى كل ذلك لاحقاً من يطمحون للتغيير الحقيقي ولن أطيل الحديث هنا عن  هذا الموضوع ولكن الكل يعلم حكايات «الكم سنت» الذي فجّر حينذاك غضب البعض ونزل الجميع الى الشارع ومن هنا ولدت الثورة «المُجهضة» فبعد أيام عدّة،بعضهم اعتبر أن هذه الثورة ما هي الا مخطط لالغاء أولوية طائفته ومؤامرة ضد زعيمه وهذا الاخير يعرف جيدا كيف يلعب على «قلق التشرذم» عند كل فرد «أي الخوف من خسارة طائفته واضعافها وأن اعتراضه في الشارع ما هو الا خذلان»و نفسيا هذا المحرّك نسميه بـِ «العاطفة الدينية» و«العاطفة السياسية».أما البعض الاخر فهم من استيقظت عندهم حقيقة أو مسلّمة،بأنه لن يتغيّر شيء وأن أجيال عدّة حاولت التغيير وفشلت،وهذا ما نترجمه نفسيّاً وبحسب غوستاف لوبون بـِ «العدوى النفسيّة» ومن الخصائص النفسية المهمة  هي تلاشي شخصية الفرد الّتي تميّزه حينما يكون جزءا من الجمهور وهنا نراه «يسلك» كما يسلك الجمهور كله وكما قلت نحن شعب يتملكنا يأس مزمن،لا وبل احباط شديد متجذّر في لاوعينا الجماعي والفردي أيضاً وهنا يقين الفرد يصبح قوي من خلال ما ذكرته أعلاه أي العدوى النفسية وهي مثل أي عدوى فيروسية تماماً ولكن أصعب،ٍلأن العدوى الفيروسية يتم الكشف عنها ويعي الفرد بخطورتها ويتعافى منها أو يتجنبها ابتداءً بالوقاية.
أما العدوى النفسية فهي أخطر لانها تكون لاواعية وذكاء الفرد وثقافته ووعيه غالباً ما ينقذه منها وبشكل عام وأيضاً بحسب لوبون فإن الجمهور بحاجة مستمرّة لوجود القائد وطاعته والتحرك بحسب ما يريد هو وكمختصة نفسية يمكنني أن أضيف أنه هذا سبب رئيسي لفشل الحراك،غياب القائد عنه،فلو كان له قائد أو ممثلون مُجمع عليهم  لكان التحق في صفوفه أغلبية الناس.و لكنه كان عبارة عن أفراد يتهافتون الى الساحات بدعوات شتّى ومع الوقت تضاءل أملهم بالتغيير لاسباب وعوامل ذكرتها أعلاه.
بعد هذه المقدمة،أعتقد أنه بات أكثر وضوحاً لماذا نحن الاكثر غضباً ولكن الأقل تعبيراً وبعدما تناولنا الاسباب والعوامل،سنقدم هنا حلول عدّة ولكنّها في الحقيقة ليست من مسؤولية المعالجين النفسيين فقط بينما هي من مسؤولية الدولة أولاً،الأسرة ثانياً وطبعاً الفرد.
أولاً:ما يمكن للدولة أن تسارع في تنفيذه: 
١-تسليط الضوء على الصحة النفسية العامة حول ما يمكن أن تولده الازمات المتتالية في لبنان من اضطرابات نفسية عند عامة الناس, وتعزيز الوعي الثقافي والنفسي: 
-يمكن ذلك من خلال توفير خدمة service ambulatoire.
وهي عبارة عن سيارة اسعاف تضم مرشدين وأخصائيين نفسيين وإجتماعيين ,تجول في المناطق والأحياء (أي أنه يمكن أن يكون لكل محافظة عدد معيّن من سيارات الاسعاف)و من خلال جولتهم يقومون بنشر التوعية النفسية وتقديم الخدمات العلاجية ايضاً ومن خلال جولتهم يقومون بنشر التوعية النفسية وتقديم الخدمات العلاجية أيضاً من خلال إقامتهم داخل منطقة معيّنة لفترة ما أقلّها ستّة أشهر.
٢-على وزارة الصحة أن تهتم بموضوع الغضب السلبي الذي قد عرفناه سابقاً وأن تهم بدراسته والتخفيف منه عبر توفير الخدمات النفسية والارشادية مجاناً في جميع المستوصفات .
٣-من مسؤوليات المؤسسات التابعة للمجتمع المدني والجمعيات الاهلية الاهتمام أيضاً بموضوع الغضب وبالصحة النفسية الجماعية اليوم في لبنان،كما أنها مسؤولة عن تنسيق برامج هادفة لتنسيق ثورة حقيقية ورفع نسبة الوعي عند اللبنانيين في التعبير عن أنفسهم والمطالبة بحقوقهم وعدم القبول بالظروف المفروضة عليهم.
ثانياً: إنّ دور الاسرة لا يقل أهمية أبداً عن دور الدولة بل على العكس اذا كانت الاسرة تعي خطورة ما نمر به وانتبهت لصحة افرادها النفسية فالامر سيكون مختلف خصوصاً من خلال تشجيع الابناء على التعبير عما يشعرون به،مناقشة الوضع الحالي في لبنان،زيادة القراءة حول كيفية تنفيس الغضب وادارته وأيضا دورها الداعم من خلال تقديم العاطفة والرعاية وعدم اعتبار الابناء (فشة خلق).
أمّا ثالثاً وآخراً، فالمسؤولية تقع على عاتق كل واحد منا،من المهم جدّاً لكل فرد أن: 
-يقرأ عما يمكن أن يصيبنا جميعا بعد هذه الازمات ويعزز التثقيف الذاتي «النفسي» .
-كما أنّه من المهم مشاركة الافكار والتعبير عن المشاعر لاشخاص نثق بهم.
-بالاضافة الى ضرورة ضبط مواعيد النوم وممارسة رياضة المشي والركض يوميّاً.
-ممارسة تمارين الشهيق والزفير يوميا قبل النوم (شهيق ونحن نعد لل ٤ ومن ثم الزفير مع اخراج الهواء من الفم ونحن نعد لل ٤ أيضا/هذا التمرين يكرر ثلاث مرات قبل النوم).
-الاستماع للموسيقى الهادئة باستمرار.
-تبني افكار جديدة  والاستغناء عن القديمة المثيرة للغضب تبعث الحماس في النفوس وتترافق مع تعلم مهارات حياتية جديدة مثال على ذلك:
لست مضطرا أن أنتظر الخبز وأقف في الطوابير وأنا قادر أن أصنعه في المنزل مع عائلتي وبمساعدة اطفالي وسنمضي وقتا ممتعاً. فلو انتبه كل واحد منا لحقيقة غضبه وكيف يوجهه وعلى من يصب هذه المشاعر السلبية وكيف يتعلم أن لا يسكت عن حقوقه لكانت النتائج التي وصلنا اليها اليوم حتماً مختلفة ،كما يجب الاستعانة بالمتخصصين النفسيين والمعالجين لان الحاجة الى تنفيس الغضب باتت ملحة للوقاية مما ينتظرنا من متحورات نفسية جديدة لا تقل خطراً عن فيروس كورونا وتبقى الوقاية خير من الف علاج...

* (مختصة نفسية)