بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 أيار 2021 12:01ص أوراق بيروتية (16): «الدزدار» مـحافـظ قلعة بيروت

قلعة الدزدار قلعة الدزدار
حجم الخط
طالما سمعنا صديقنا الأستاذ إبراهيم الصيداني صاحب كتاب «رأس النبع ذاكرة الجغرافية والتاريخ» يتساءل عما حَوَته هذه المساحة الصغيرة المسمّاة بيروت القديمة داخل السور البالغ طولها ستمائة وستين مترا ًوعرضها ثلاثمائة وثمانين متراً مقتحمة بحر الروم. ويعجب مما تضمّه من منشآت مختلفة من مساجد وزوايا وكنائس ومدارس وكتاتيب وأسبلة ووقفيات على وجوه البر. وكيف تتزاحم الأقدام والأرزاق عند أبوابها وتتكدس البضائع في زقاقات أسواقها وتتراكب بيوتها وتتلاصق وتتجاور بين الخانات والقيساريات والمعاصر والمصابن والأفران. وكيف يتشارك أهلها في الماء والهواء والسماء. وكيف رَوتْ دماء أبنائها مدن البلقان والقرم واليمن وضفاف الدانوب والترعة. فنقول للصديق المندهش إنها الأعجوبة والأحدوثة (حدوتة الأمهات والجدات) لبلدة ملأت الدنيا وشغلت الناس، سرّها في سكانها، قاومت الزلازل والأعاصير وبنت من أنقاضها قلاعاً وأبراجاً معمارية وعمرانية وثقافية. بلدة فيها التين والزيتون مدى السنون والتوت والخروب والجميز والصنوبر. وفيها الفنادق والخنادق والمغاور والجلول والبساتين والجنائن.
نبغ منها شعراء وأدباء وفقهاء ومحدّثون وزهّاد ورواة. وعرفت الباشاوات والبكوات والولاة والرعاة والدعاة والفتوات والسرايات والساحات. وكان من أبنائها الأغا والخواجة والطوب جي والتفنكجي والدالاتي والشنشكير والسردار وشيخ البازار وشاه بندر التجار والدفتر دار والخزنة دار والسنجق دار والدزدار.

كانت مسؤولية أمن بيروت أيام العثمانيين بعهدة قوة بمثابة شرطة (الضبطية) برئاسة آغا، وقوة في القلعة برئاسة دزدار. تقع قلعة بيروت الى الجنوب الشرقي من مدخل المرفأ وردت أقدم إشارة إليها أيام الحروب الصليبية وقد دخلها صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م ونصّب السنجق السلطاني عليها.
زار عبد الغني النابلسي القلعة سنة 1700م وقال فيها:
بقلعة بيروت مكان ترفّعا
علا هو والنجم الذي في السما
يطل على تلك البلاد جميعها
فيشرح صدراً للأنام وأضلعا
جوانبه مطلقة في الجو فيا
جوانب منه قيدت لي أربعا
يزيد النسيم فيه ترددا
فيشفي فؤاداً في المحبة موجعا
وللبحر منه صفحة زاد بسطها
منمنمةً بالموج زادت توسّعا
أتيناه مع صحب كرام أجلّة
ببيروتَ حيّا الله هاتيك أجمعا
وقد شهدت القلعة عدة معارك دفاعاً عن المدينة وأهلها. ففي ربيع سنة 1772م قصف الاسطول الروسي بيروت. 
كما قصفها وحاصرها مدة أربعة أشهر سنة 1773م.
تحصينات القلعة وأسلحتها
مما يؤسف له ان أحدا لم يبيّن رسماً لهندسة القلعة وتقسيماتها وما إذا كانت فيها ممرات ودهاليز داخلية معدّة للتسلل الى داخلها أو للفرار عند الضرورة. وقد شاهدنا في موقع بقايا القلعة وجود فتحات عميقة القعر متروكة دون حاجز حماية قد تكون من تلك الانفاق. وكل ما نعرفه ان القلعة كانت معتمدة على مياه الأمطار وان فيها مسجدا خشبيا ذكره أوليا جلبي في زيارته لها. كل ما ورد فيها ما ذكره تقرير مفصّل أرسله أحد عيون إبراهيم باشا في بيروت سنة 1832م جاء فيه ان برج القلعة يحكم المدينة والبحر وان فيه تسعة مدافع وهاونان أربعة مدافع من عيار اقتين ومدفعان من عيار اقة ونصف واثنان من عيار اقة والتاسع من عيار اقة ولكنه أطول من الآخرين والهاونان عيار أربعة أصابع طراز قديم. ومن ذخائر برج القلعة خمس قمبرات ومائتان وخمسون قتبلة مختلفة القطر ومغلاقان وبريمتان ورافعتان. ويشير التقرير الى ان في القلعة عساكر من الألاي الثامن بقيادة الصاغ كول آغا حسن أفندي.
وكان محيط القلعة عامرا بالسكان والدكان لما يوحيه جوارها من الأمن والأمان منها سوق الدباغة المجاور للقلعة عند الباب الشرقي للبلدة وقرب درج القلعة بنى آل الحلواني في وقف الحاجة نفيسة بنت عمر زين الدين الحاج شاهين فايد خاناً الى جانب ثلاثة خانات تخص آل بسترس. أما مجاورو القلعة من السكان فكان منهم آل الحلواني والغندور وبيهم وداعوق وتويني ودار عمر غزاوي غرب القلعة, أما أكبر عقار ملاصق لدرج القلعة فعُرف ببستان أبي صالح طبارة يصل حتى بناية فتال.
قائد القلعة وضابطها
أطلق على قائد القلعة اسم الدزدار وهي كلمة فارسية تعني حافظ القلعة (من دز بمعنى ممسك، فائد، حافظ) توالى على حراسة القلعة وقيادة حاميتها شجعان من عائلات بيروت حملوا لقب دزدار منهم عبدي آغا ابن الحاج حسن القصار (جد آل القصار البيارتة) الذي كان دزداراً سنة 1720م. ومنهم إعمر آغا دزدار سنة 1743م. ومن محافظي القلعة عدة أشخاص من أسرة دية منهم صادق دية سنة 1772م. وعلي آغا دية الذي تولّى أمن القلعة سنتي 1772 و1773م ضد القصف الروسي، ورد في ديوان المفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله انه «وقال راثياً جناب شمس المعالي والكمال وبدر المحاسن والكمال فخر أمثاله علي آغا ديه الدزدار حين أخذته يد الرحمة والغفران وحملته الى قصور الجنان وعانقته بها الحور الحسان وخدمته فيها الولدان لا زال على ضريحه تمطر سحايب الرضوان... والرثاء قصيدة طويلة مطلعها:
بكل الورى أمرُ المنون فنافذ
وفيها المنايا بالسّهام تراشقُ 
وكل مليك سوف يرحل ظاعناً
ولا بد يوماً للحياة يفارق 
ومنها:
هلال العلى قد غاب مذ لاح شارقاً
لهذا أرى بالدمع أني شارق
علي السجايا ابن المكارم والندى
همامٌ به ذلت أنوفٌ شواهق
قفا نبكه عاماً وعاما ننوحه
وتندبه منا قلوب خوافق 
عليك رضاء الله ما ناح طائر 
وما طلعت شمس وما اسودّ غاسق
وبعد خروج الروس عيّن الأمير يوسف صادق آغا ديه دزداراً للقلعة. ومن أسرة ديه الدزدار عبد الله آغا دية الذي نوّه به المفتي فتح الله فقال:
أكرمتَ عبد الله بالشرف العليّ
ومنحت فيه بقلة الأشباهِ
يكفيك أنك للأماجد سيدٌ
يسمو وأن لا زلتَ عبد الله
وكان آل دية ولا سيما منهم قواد القلعة على صداقة وثيقة بقاضي بيروت ومفتيها الشيخ أحمد الأغر، فقد كان اثنان من آل دية من أولاد المفتي القلبيين هما حسين حمزة دية وعبد الحميد عبد الله دية، فعبد الحميد طلب من المفتي تشطير بيتين فشطرهما:
قامت تودعني والدمع يغلبها
والوجد أغرقها في لجّة الحَزَنِ
وعاصف الشوق قد أضحى يميل بها
كما يميل نسيم الريح بالغصن
ثم استمرت وقالت وهي باكية
صعب الفراق على العشاق لم يهن
لقد تنكر حالي في الغرام أسىً
يا ليت معرفتي إياك لم تكن
واطّلع المفتي الأغر سنة 1845 من حسن على أرجوزة ممزّقة ممحاة الخط في علم ما يوافق الطالب من مطلوبه أو لا يوافق (أي معرفة التوافق بين الزوجين من خلال إسميهما) فأخذها منه المفتي ونظم ما جاء فيها آخذا ببعض الروايات ومطلعها:
الحمد للّه الذي قد قسما
حظوظ خلقه كما قد علما
فمنهم الشقي والسعيد ومنهم السادة والعبيد
ومنهم الغني والفقير ومنهم المأمور والأمير 
مقدر الأرزاق والآجالا ورزق الحر والحلالا
(نشرنا الأرجوزة كاملة في كتابنا: البيارتة حكايات أمثالهم ووقائع أيامهم).
يذكر أنه في الوقت الذي كان فيه عبد الله آغا دية دزداراً لقلعة بيروت سنة 1826م أغار القراصنة الأروام على بيروت ونزلوا في برج أبي هدير عند مرفأ الغناس (قرب الكرنتينا) وتسلقوا سور المدينة، فتولّى القاضي المفتي الشيخ أحمد الأغر قيادة المقاومة الشعبية ضد الغزاة. وعندما اختلف والي عكا ووالي حلب ووصل عسكر هذا الأخير الى ضواحي بيروت ولم يقبل أهلها أوامر والي حلب، عيّن عبد الله آغا دية دزداراً للقلعة ومتسلماً على المدينة. وكثيراً ما كان القائد العسكري يتولى حكم البلد حتى أصبح فيما بعد بدعة سيئة.
تملّك أبناء أسرة دية عدة عقارات في بيروت وكان منزولهم معدّاً لاستقبال من يرد الى المدينة من الحكام والعسكريين (كما بيّنا في كتابنا «منزول بيروت»). وقد شارك أحدهم محمد دية في تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت سنة 1878م. وفي داره افتتحت سنة 1898م المدرسة العثمانية، ثم الاسلامية، التي أسسها الشيخ أحمد عباس الأزهري والشيخ عبد القادر قباني. وأجرى أحدهم درويش دية سنة 1863م سبيل ماء في بيروت لوجه الله. 
ومن أبنائهم خليل ديه عضو مجلس إدارة لواء بيروت سنة 1881م وعبد الكريم دية قبطان البارجة «عون الله» التي أغرقها الأسطول الإيطالي عندما ضرب بيروت سنة 1912م وغيرهم ممن ذكرناهم في كتابنا «منزول بيروت».

 * مؤرخ