بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 تشرين الأول 2021 12:00ص أوراق بيروتية (36): قناطر أسواق حمادة (أياس) والصاغة والفشخة والمجيدية وبني سربيه وبني دندن

حجم الخط
 عندما جاء محمد نامق باشا سنة 1260هـ/ 1844م الى بيروت ليستلم مأموريته جاء بعربة فلم تتجاوز في سيرها ساحة البرج من باب يعقوب وتعذّر عليها السير وتوعر المسلك وكان عرض بعض الطرق نصف متر والعريضة مترا واحدا، وقد اختلف المؤرخون في عدد أبواب بيروت بين قائل بأنها أربعة وقائل بأنها خمسة الى قائل بأنها سبعة والذين قالوا سبعة برّروا ذلك بتقديس العدد سبعة. وينبغي التنويه بما عرفت به بيروت لدى الرحالة الأجانب بأنها «المدينة المربعة» الأمر الذي يبرر برأينا القائل بأن الأبواب القديمة لبيروت لم تكن تزيد عن أربعة أبواب. ولا سيما أن من المعروف والمنطقي أن حماية المدينة والدفاع عنها يفرضان التقليل من المنافذ - الأبواب فكلما كثرت الأبواب صعب الدفاع عن المدينة. يذكر أن المماليك ابتدعوا نظاماً هندسياً أي تنظيماً مُدنياً للحماية يقوم على قواعد تهدف الى حماية المدينة وسكانها من أي اعتداء أو توغل خارجي. من تلك القواعد تقليل أبواب المدينة ومنها جعل الدروب والزواريب متشابكة متعرجة كالمتاهة بين البيوت مبنية بالحجارة الرملية - كالمتاريس تتخللها عقود وقناطر مسقوفة بنيت بيوت فوقها ما يوجد رابطة متماسكة بين السكان والسلطة ويؤمّن الدفاع عن المدينة من أي اعتداء أجنبي. والشواهد كثيرة على صمود السكان ما يبرر المقولة: كلما وسّعنا الدروب، كلما باعدنا بين القلوب.


اتخذ الذين أقاموا أبراجا خارج المدينة احتياطات بأن جعلوا لأبراجهم أبوابا خشبية سميكة مدعمة بمسامير وجعلوا للبرج بابا واحدا يصعد بسلم من داخل القبو الى الغرف، والقبو قاعة كبيرة معقودة بالمؤن والأحجار كما يتبيّن من برج سعادة في بستان سعادة بحي الرمال. وكما هو حال برج القاطرجي (بقاياه موجودة في شارع الزهراوي).

وأهل بيروت (كأهل مكة) أدرى بشعابها، فابن المدينة يعرف كيف يتنقل في الدروب من بيته في محلة الدركاه مثلا الى محلة الفاخورة وابن محلة الرصيف يعرف كيف يصل الى محلة التوبة أو الشيخ رسلان، بينما يمتنع هذا الأمر على الأجنبي الفرنسي والروسي واليوناني - ويصعب حتى على أبناء رأس بيروت الذي خطب بنتا من المصيطبة ورفض أهلها وحجّتهم «غربة».

تمرُّ الدروب بين بيوت مبنية بالحجر الرملي المستخرج من مقالع المصيطبة والزيدانية، حجارة لا تؤثر فيها القنابل متلاصقة متماسكة أشبه شيء بمتاريس من أكياس الرمل. إلا ان هذا التخطيط تقابله مخاطر على الصحة العامة لعدم وصول أشعة الشمس الى داخل البيوت والدروب مما يزيد في الرطوبة شتاء فتكثر أمراض الرشح والصدر حتى قيل إن السّعالين يكثرون في الدروب شتاء.

وكان الواحد من المارّة يعاني في سيره من الملاكمة والملاطمة فلا يعدم دابة ترشّه بالوحل فتتركه عبرة للناظرين أو حمّالاً يلطمه فيرميه أو سائق عربة يدهمه على غفلة فيرديه أو خشبة محمّلة تصيبه في رأسه فتعميه أو قطاراً من الجمال يستوقفه طويلاً أو قطيعاً من حمير الحجّارة.

قناطر بيروت القديمة

ذكرت في خطط بيروت القديمة داخل السور الكثير من القناطر التي تغطي الدروب وتحمل البيوت وهي تمنح جمالية للأسواق والخانات والحمامات من جهة وتؤمّن بعض الحماية لبضائع التجار ومنتجات الحرفيين. ومما يؤسف له ان عمليات الهدم وإعادة البناء بذريعة تجميل المدينة أدّت الى إزالة هذه القناطر ولم تترك للأجيال قنطرة واحدة للذكرى، وقد عثرنا في السجلات والوثائق على بعضها وأدركنا البعض الآخر منها قبل أن تطالها المعاول.

قناطر أبواب المدينة

نشرت صور لأبواب المدينة الرئيسة كأبواب الدركاه والسراي ويعقوب والدباغة تعلوها قناطر مع تحصيناتها التي تفرضها حماية المدينة.

بيوت فوق القناطر

وردت في جردة أوقاف بيروت التي دوّنت سنة 1843م من ضمن أوقاف الجامع العمري الكبير إشارة الى قنطرة بطرس مطر الراكبة عليها دار المير في المحلة المعروفة بزاوية المجذوب. وذكرت الوثيقة المؤرخة في الثالث والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1285هـ/ 1869م بيع منصور باسيلا الى شقيقه حصة من «البيت الكبير الراكب على قنطرة الطريق السالك الكائن في محلة كنيسة الروم قرب بركة المطران. وتذكر الوثيقة المؤرخة في 13 جمادى الأولى سنة 1264هـ/ 1848م ان مريم محمد كسبية وأولادها أبناء عبد الرحمن كسبية باعوا ثلاثة قراريط من العليّة التي تعلو زاروب دار بني كسبية الملاصقة لزاوية (جامع) شمس الدين.

قناطر بني سربيه

في الوثيقة المؤرخة في السادس عشر من شهر شوال سنة 1264هـ/ 1848م باعت آمنة علاء الدين أبي لطفي (لطفي دية) الى بنتي شقيقتها حصتها من دار أبيها الكائنة بالقرب من قناطر بني سربيه وانطون الكواتلة قرب ساحة النجمة. وأسرة سربيه قديمة في بيروت عرف من أفرادها علي سربيه الذي أرسل الى والي سورية عثمان باشا لإخباره باعتداء الاسطول الروسي على بيروت ونتج عن ذلك إرسال الوالي أحمد باشا الجزار وثلاثمائة من المغاربة الى الأمير يوسف لإرسالهم الى بيروت لحفظها. ومنهم الرسام إبراهيم سربيه الذي خلّد زيارة امبراطور ألمانيا الى بيروت بلوحة كبيرة في خزانتنا نسخة عنها صدرنا بها كتابنا «البيارتة: حكايات أمثالهم ووقائع أيامهم».

قناطر بني دندن

تقع قناطر بني دندن في محلة شويربات قرب الحمام (الفوقاني) الصغير ومجلس النواب اليوم وكان لهذه العائلة عدة عقارات ومؤسسات منها معصرة وبرج في محلة كركول العبد لمالكته حافظة دندن وله حكاية ذكرناها في كتابنا «البيارتة» وبرج في محلة القنطاري... ومن أملاكهم معصرة والكثير من الأراضي والبساتين في محلة الشيخ رسلان ومحلة الدحداح اشتهر بعضها بزيتون بني دندن وغيرها. ورد في جردة أوقاف جامع السراي ذكر لدار عبد الوهاب دندن عند القناطر، وتذكر وثيقة آخر شهر صفر الخير سنة 1259هـ/ 1843م شراء الحاج سعيد محمد غندور فتح الله الشيخ دار عبد القادر سربيه بمحلة شويربات قرب قناطر بني دندن.

قناطر أسواق (السيد حمادة) أياس والصاغة وأبي النصر

في سنة 1864م أنشأ سعد حماده واخوانه في جوار أملاكهم المعروفة بجانب الطويلة (أي الطريق - السوق الطويلة) سوقاً جميلاً سمّوه سوق «السيد» نسبة لإسم أبيهم عبد الفتاح آغا حماده متسلم بيروت سنة 1840م. وصف سوق السيد في حينه بأنه «سوق عظيم مستطيل ينفذ على أربع جهات ويحتوي مخازن ودكاكين على الجانبين جميعها متقنة الدهان والترتيب. وقد تبلّطت أرجاؤه وأقيمت في وسطه بين أقسامه الأربعة قبة من أربع قناطر ارتفعت فوق أربعة دكاكين مقابلة لبعضها البعض ووضع في وسط السوق بركة ماء بنافورة جعلت سبيلاً (تحوّلت البركة مع الزمن الى بركة العنتبلي).

وحفر في أعلى القبة بجوانبها الأربعة تاريخ بحساب الجمل من نظم الشيخ حسين عمر بيهم العيتاني وهو قوله:

للّه قبة سوق شاء رونقه

بنو حمادة آل الجاه والنسك

تنسيك من جلق باب البريد

كما بالسعد أرخت تزري قبة الفلك

وأقيمت في ظهر السوق ثلاث دوائر للسكن أو للمكاتب التجارية. وفي صيف سنة 1877م وبعد أن توطّن محمد أياس وشقيقه في بيروت اشتريا سوق السيد وحسناه فعرف باسمهم.

قنطرة المجيدية وأمين سلام

اشتهرت قنطرة عند جامع المجيدية اتخذ تحتها أمين سلام محلا له ودعا بإعلان نشر سنة 1907 تجار الطويلة (السوق) وكتّابهم إذا شكوا الحر أن يروّحوا النفس بالهواء الذي لا ينقطع من القنطرة حيث يجدون «طعام الصباح والمرطبات من الليموناده والبوزة المصنوعة بالفريز والحليب والليمون والشوكولاتا وغيرها» وختم إعلانه بالمثل المعروف: من ذاق عرف.

قنطرة البوابة الجديدة

وقد ورد ذكر معبر مقبب قرب دار وزاوية الشيخ محمد أبي النصر اليافي فتح سنة 1859م وأطلق عليه اسم البوابة الجديدة، وقد أدركنا في آخر هذه السوق باباً مقبباً يوصل الى سوق القطايف. كما أدركنا قناطر سوق رعد وهاني في ساحة البرج أي سوق الصاغة القديم وقناطره التي تغطي محلاته المبنية بالمؤن والأحجار.

قنطرة سوق الفشخة

وأثارت قنطرة سوق الفشخة (من جامع السراي الى باب إدريس) عدة أحداث وطولب عدة مرات بهدمها بسبب ازدحام الأقدام وتضرر الأجسام، ففيما ترى الشاب بأجمل الثياب وأعبق العطور في يده قضيب خيزران والحسناء التي أمضت ساعات في الزينة يمرّ بينهما حمار عليه حمل حجارة أو رجل يحمل على ظهره خروفا مذبوحا وينادي هو وصاحب الحمار «ظهرك بالك» ويمرُّ معهم باعة البوظة والمعلل بيعلك وحلّي سنونك وباعة التمرية والسمسمية وحاملو قُرب السوس.. ما حمل الوالي على هدم سوق الفشخة ودك القنطرة.



* مؤرخ