بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 كانون الثاني 2022 12:00ص أوراق بيروتية (49): الوفاء لوالي بيروت نصوحي بك واقف قطعة أرض لإنشاء الكلية الشرعية

حجم الخط
السيئات يقترفها الناس فيمضي فاعلوها وتبقى، وأما الحسنات فغالبا ما تدفن مع رفاتهم تحت الثرى. ولولا ان سرعة الحسنة من طبيعة الإنسان لما كان بالقائل حاجة أن يقول للناس «اذكروا محاسن موتاكم». كانت مناهج التربية تصرّ على إعطاء الاسوة الحسنة للطلاب بفاعل الخير وتحثّ على العرفان بالفضل وتكريم الأعمال الصالحة بدءا من: قمْ للمعلّم وفّه التبجيلا... الى وفاء السمؤال، فالمروءة والوفاء التي تحكيها يوما عن النعمان. وقد نقش على مدخل مبنى بلدية بيروت بيت من الشعر لشاعر مجهول يقول:

ان آثارنا تدلّ علينا 

فانظروا بعدنا الى الآثارِ

فمن هو قائل هذا البيت وما هي آثاره التي يطلب منا أن ننظر إليها؟ وأفضل ما ينطبق هذا القول على رجل فاضل لم يأخذ حقه من الوفاء تولّى متصرفية بيروت ثم الولاية عليها في العهد العثماني، عنينا به نصوحي بن خير الله أفندي ابن عبد الحق أفندي.

نصوحي بك وطرقات المدينة

لم تكن العربة تتجاوز في سيرها في الطرق القديمة ساحة البرج من باب يعقوب (السور) وتعذّر عليها السير واعتاص السبيل وتوعر المسلك إذ كان عرض بعض الطرق نصف متر والعريضة متراً واحداً. وكانت الأوحال تبتلع قصير القامة شتاءً وتغمره الرمال صيفاً. أما الطويل فإن سَلِم رأسه من وخز الصبّير، لا يسلم من أغصان الأشجار. يذكر ان السيول غالباً ما كانت تطغى، فتروّج سوق الحمالين وتصل أجرة نقل العابرين الى عشرين بارة. وقد علت مياه الأمطار خمسة وسبعين سنتيمتراً داخل كنيسة الروم الأرثوذكس وجرفت المياه من مصفاة طريق الفشخة عبد القادر ابن الشيخ ناصر الى البحر.

وعندما جاء مدحت باشا والياً على سورية سنة 1879م قَدِم بيروت وعلم أن محلة رأس بيروت طيبة الهواء، واسعة المجال محرومة من طريق تمرّ بها العربات وباقية على طرقها القديمة. فأوعز الى البلدية التي كانت في حينه برئاسة إبراهيم فخري بك ابن محمود نامي بك، بفتح طريق من المستشفى البروسي (الألماني قرب الجامعة الأميركية) الى المنارة عرضه عشرون ذراعاً، وابتاع أرضاً هناك ترغيباً لترقّي أراضي المحلة. ومن الطرق القديمة خارج السور، طريق كان يمرّ من القشلة الهمايونية (السراي الكبيــــر فيما بعد) الى الكنيسة الإنجيلية - الأميركان - فالمدرسة الإنكليزية السورية (مدرسة مسز موط - زقاق البلاط) وينعطف من هناك الى دير مار إلياس بالطينة. وكانت تسير عليه المركبات والخيول وزوّار مقام الإمام الأوزاعي ومار إلياس وأهالي منطقتي المصيطبة والزيدانية.

ولما جاء نصوحي بك متصرفاً على بيروت سنة 1886م رأى ضرورة تحسين طرقات المدينة، فشرع من الطريق الممتد من البحر حذاء خان انطون بكالى محلة ميناء الحسن فرأس بيروت فالفنار (المنارة) وصولاً الى محلة شوران. كما شرع بفتح الطريق التي تمرّ من أمام الجامعة الأميركية الى قرب الفنار. ثم أوصلت تلك الطريق التي تمرّ بساحل البحر بفتح طريق الى جهة بيت قريطم وبيت طبارة الواقعين في أعالي شوران (محلة قريطم اليوم). ولما عاد والياً على بيروت سنة 1894م رأى فتح طرق أخرى: منها واحدة مارّة بمحلة الرمل من القنطاري غرباً حتى خندق اللبان - الحمراء - ومنه الى المنارة. والثانية من مدرسة الإنكليز الى جبّ النخل (محلة قريطم) فشوران. والثالثة من المدرسة المذكورة الى محلة المصيطبة.

وبالنظر لتزايد العمران خارج السور، أحيطت البلدة القديمة بطريق (شوسه) يستطيع الإنسان التجوّل فيها ماشياً على الأقدام بمدة نصف ساعة من جهة الميناء غرباً، فيذهب الى ساحة القمح فباب إدريس فالثكنة العسكرية (القشله) فساحة البرج فالحديقة الحميدية حتى دار الحكومـــــة - السراي الصغير - فباب الدباغة فالميناء.

العناية بالمساجد والمقامات الدينية

في شهر آب 1894م وصلت الباخرة التي تقلّ والي بيروت نصوحي بك الى مرفأ بيروت فركب عجلة وإلى يساره نائب الشرع الشريف وسار حتى وصل الى الجامع العمري الكبير فصلّى بضع ركعات إحياء لهذه العادة الحسنة ثم انطلق الى دار الحكومة فإلى دار عمر غزاوي التي أُعدّت له مؤقتا. وفي اليوم نفسه زار في جبانة الخارجة ضريح سيدتنا الصحابية أم حرام بنت ملحان. وفي اليوم الثاني لوصوله توجه لزيارة مقام سيدنا الإمام الأوزاعي رضي الله عنه. وتوجه في اليوم الثالث لزيارة مقام الخضر عليه السلام ورأى ضرورة توسعته.

يذكر انه لما كان متصرف بيروت زار الجامع العمري الكبير سنة 1886 نظر في توسعته وبناء منارتين كجوامع إسطنبول. وفي شباط 1887 صدر الأمر السلطاني بتنميق مشهد النبي يحيى عليه السلام الكائن في مقصورة داخل الجامع، فبادر الوالي الى الجامع للنظر فيما يمكن إجراؤه وفوّض الأمر بذلك الى الحاج محي الدين بيهم. وفي مناسبة المولد النبوي الشريف سنة 1894 حضر الوالي الى الجامع العمري فتُليت سيرة مولد سيد ولد عدنان ووزعت قراطيس الملبس.

وعند وصول نصوحي بك الى بيروت اتصل بعلمه ان دوائر الحكومة في مركز الولاية وملحقاتها تعطّل أيام الآحاد التي لا تُعدّ من أيام العطل التركية، فأصدر أمره بإلغاء هذه العادة ولزوم فتح الدوائر أيام الجمعة واشتغال المأمورين والكتبة طبقا لما هو حاصل في جميع الولايات السلطانية.

وفي حزيران 1896 احتفل في الحديقة الحميدية باختتان مائة وأربعين ولدا من أولاد الفقراء بحضور الوالي المذكور وأركان الدولة وأولياء الأولاد على وقع ألحان الموسيقى العسكرية ووزعت على كل ولد ملابس كاملة، وكانت اللجنة التي كلّفت تنظيم الحفل برئاسة مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري وعضوية الشيخ محمد بدران والشيخ رشيد الفاخوري ومحمد اللبابيدي وعمر الجندي.

وقام نصوحي بك برعاية إنشاء المساجد، فحضر في أيار 1895 تأسيس الجامع الشريف الذي تبرّع بإنشائه الحاج محي الدين بيهم في محلة البسطة الفوقا. وكان أيام متصرفيته قد صلّى أول جمعة في جامع المصيطبة بعد انتهائه.

ذكرت جريدة «بيروت» في عددها 169/ أيلول 1887 ان جامع الدباغة بات متهدّم الجوانب وصار الأهالي يخشون الدخول إليه، «ولما كان بناؤه من عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه» فاهتم نصوحي بك بترميمه وتبيّن له لزوم حوالي 90 ألف غرش طلبها من نظارة الأوقاف فأجابته بأن ليس لجامع دخلا يكفي القيام بالنفقات. وتقرّر في عهده ترميم جامع الخضر وعهد الى لجنة خاصة لإجراء ذلك من أصل أجرة الأرض الموقوفة لهذا المقام الشريف التي أجرت لشركة السكة الحديدية. ومع صدور الإرادة السنية بإعفاء الرفاعية من الخدمة العسكرية جرى في آذار 1886 تلاوة سيرة المولد الشريف في تكية الشيخ مصطفى الرفاعي بحضور نصوحي بك والقاضي والمفتي ومشايخ أهل الطرق، كما جرى مثل ذلك في تكية الشيخ عبد القادر الرفاعي. وحضر أيام ولايته سنة 1895 بدعوة من شيخ السجادة الخلوتية الشيخ عبد الكريم أبو النصر تلاوة المولد والذكر في زاوية الشيخ أبي النصر.

وكان نصوحي بك يعرف العربية جيدا، حضر حفل التخرّج في الجامعة الأميركية وفي المدرسة السلطانية ورغب في تأليف كتاب يجمع أشهر القصائد العربية.

وفي ولاية نصوحي بك صدر بتاريخ 6 شوال 1313هـ/ 20 آذار 1896م الفرمان الموجّه له بالترخيص بإقامة مدرسة في بيروت للفتيات اليتيمات من طائفة الروم الأرثوذكس على أرض موقوفة على كنيسة الروم.

وقف إنشاء الكلية الشرعية (العلماء) وذكرى الشيخين خالد والحوت

لما كان الوقف من أجمل القربات وأفضل الأعمال الصالحات وكان من أفضلها وأعظمها أجرا وثوابا الصدقة الجارية لأن أجورها الى صاحبها الى انقراض الزمان متصلة ومتوالية تجري على فاعلها الى يوم القيامة، كما ورد بذلك حديث أفضل الرسل الكرام: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وعدّ منها: الصدقة الجارية، فقد رغب فيها نصوحي بك ابتغاء وجه الله الكريم ورغبة في ثوابه العميم وفرارا من العذاب الأليم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ووقف في التاسع من شهر ذي القعدة سنة 1312هـ/1895م ما هو جارٍ في ملكه ومتصل إليه بالشراء الشرعي من الكونت ادمون دي برتوي رئيس إدارة البور قطعة أرض مساحتها 875 مترا تحدّها قبلة مقبرة الخارجة وقفا شرعيا وحبسا مؤبدا على طلبة العلوم الدينية الشرعية كعلم التفسير والحديث والفقه والأصول والفروع وما يكون آلة لتحصيلها كعلوم العربية وعلى المدرّس لتلك العلوم، وشرط في وقفه أن يُصرّف ثلث الريع على المدرّس والثلث الثاني على الطلبة والثلث الباقي خمساه الى المتولي وخمساه الى لوازم صبيان المكاتب الإسلامية وخمسه الخامس الى مفروشات وفراش محل الطلبة وحارس المقبرة، على أن ينتخب المدرّس من المميّزين في دار الخلافة أو من علماء الجامع الأزهر وعلى أن تكون التولية للمفتي الفاخوري ومن بعده لمن يكون مفتيا في بيروت... الخ

ولم يتوفر إنشاء الكلية في عهد المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري ولا في عهد المفتي الشيخ مصطفى نجا، وجرى في عهد هذا الأخير اقتطاع قسم الأرض ثم استملاك البلدية للباقي منها وكان صندوق الوقف يحتوي وفقا لأمين الصندوق حسن قرنفل 4250 ليرة ذهبية سُلّمت الى المفتي الشيخ محمد توفيق خالد وبهذا المبلغ تمّت المباشرة بإنشاء الكلية الشرعية بجوار دار الفتوى.

لوحة ذكرى الشيخين خالد والحوت (ونصوحي)

ثبتت لوحة على مدخل أزهر لبنان نصها «ذكرى الشيخين خالد والحوت» والمقصود بالشيخين عبد الله خالد جد المفتي توفيق خالد لأبيه ومحمد الحوت جد المفتي توفيق خالد لأمه. ولا يمكن لأحد أن ينكر دور الشيخين المذكورين في النهضة العلمية والفقهية في بيروت في القرن التاسع عشر. ولكن الوفاء يعرفه ذووه والبيارتة منهم فكان الواجب أن يذكر في اللوحة تاريخ الوقف وإسم نصوحي بك واقف الأرض التي بثمنها تمّ بناء الكلية الشرعية.



* مؤرخ