بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 كانون الأول 2019 12:04ص أيام بيروتية (7): الشيخان أحمد البربير وعبد اللطيف فتح الله في ديوان أحمد باشا الجزّار

ديوان المفتي عبد اللطيف فتح الله وكتاب الشيخ البربير ديوان المفتي عبد اللطيف فتح الله وكتاب الشيخ البربير
حجم الخط
خرج الجزار من بيروت الى عكا ومنها تردّد الى القسطنطينية ولبث فيها حوالي السنتين وجّهت إليه بعدها ولاية صيدا. فشرع في جمع العساكر وترتيب الايالات وأرسل إليه الأمير يوسف الهدايا و التهاني. وضبط الجزار بيروت وجميع أملاك الأمراء الشهابيين فيها وطلب الأموال من الأمير يوسف الذي إلتزم بدفع مائة ألف قرش. وخدم الحظ الجزار فوجّهت إليه سنة 1782 إيالة الشام إضافة الى صيدا. فتحرّك ضد الأمير وطلب منه السلاح الموجود في الجبل وضيّق عليه وأرسل أمراً الى بيروت بعدم خروج أي شيء منها وأن يحافظ المتسلم على المدينة وأبوابها وأن يكون الاتفاق بين النصارى والمسلمين وأن يكونوا برأي واحد ونادوا في الأسواق بهذا الأمر وأوصوا به في الجوامع والكنائس.

وفي أثناء ذلك أو في غضون ذلك كما يتردد في وسائل الإعلام (ولا ندري ماذا تعني غضون) نزل رجال من قبل الأمير يوسف الى نواحي بيروت فاستاقوا بعض الماشية وقطعوا طرق الطواحين وضبطوا ناقلي القمح ونهبوا ما في مخزن قمح محلة الخضر وقتلوا سبعة رجال من أهل المدينة وجدوهم خارجها. فحضر الجزار الى بيروت ومعه أربعة آلاف رجل وسارع الأمير يوسف بإرسال ابنه ومعه خمسين كيسا للجزار فقبلها وطمأن متسلم بيروت وبعض أهاليها كأبي عسكر وفارس الدهان الأمير يوسف وكتبوا له بذلك فحضر الى بيروت. فنقله الجزار الى عكا مع مدبّره غندور الخوري ثم قتلهما.

وتسلّم الأمير بشير حكم الجبل وفرض حوالات على الزعماء بالمال المتوجب على كل منهم، ونص الحوالة «نعرف عزيزنا فلان... ما خفاك الإيراد المطلوب منا لزم خصيناكم لهذا المقدار تدفعوا المطلوب لحاملين الأحرف اتباعنا وأمرناهم أن لا يرتفعوا إلا بالخلاص والسلام» فضجّت الناس وطردوا حاملي الحوالات فحضر الأمير الى حرج الصنوبر وبدأ يخرّب في سواحل بيروت فخشي أهل المدينة وسكّروا الأبواب واشتدّ الغلاء وارتفعت الأسعار ووقف البيع والشراء وأرضى الأمراء الجزار بخمسين كيسا فأمر بفتح الأبواب.

وكان قد حضر مع الجزار من المغاربة من بقيت لهم آثار في بيروت نذكر منهم أحمد محمد آغا الجبوري الذي استلم قطعة أرض كبيرة في محلة الغلغول أوقفها بعد انتقاله الى طرابلس وكانت الى فترة قريبة تعرف بوقف الجبوري. وتسلّم حميدي صقر والمعلم زين أمن محلة الباشورة وعهد الى أبي موت بأمن محلة المصيطبة وزقاق البلاط. وعيّن الجزار البخاري متسلماً على المدينة. ولم يدرس النّسابون دور هؤلاء المغاربة ومن تزوج منهم في بيروت ومن بقي من أولادهم وأحفادهم فيها وهل ثمّة علاقة بينهم وبين ما يقال عن الأصل المغربي لبعض عائلات بيروت؟

الشيخ أحمد البربير يتصدَّر 

مجلس أحمد باشا الجزار

عاصر الشاعر أحمد البربير حكم أحمد باشا الجزار وما رافق حكمه على إيالة عكا وصيدا وبيروت وطرابلس من أحداث ووقائع منها المنازعة بين الجزار وبين الأمير يوسف الشهابي ومحاصرة الأسطول الروسي وقصفه بيروت لإخراج الجزار منها. وكانت كلمة البربير مسموعة لدى الجزار ومن طريف ما ذكره هو نفسه قال: ومما اتفق لي أن الوزير الجزار – عامله الله بالرحمة في دار القرار – كان قد أرسل الى بيروت وأنابها رجلاً من المغاربة ومعه جملة عساكر منهم للمحافظة فعاث عسكره عيث الجراد وشمّر عن ساق الأذى والفساد حتى اشتكت منه بقاع البلاد فضلاً عن العباد فلزم أنني توجهت نحو رئيسه وكان يدعى بالبخاري ونصحته وخوّفته عقاب الباري فأجاب بأنه لا يقدر على رد جنوده وأنه يخشى من ذلك عدم وجوده. ففارقته وكتبت للوزير:

وزيرنا طاهر المزايا

فاقصد ندا جوده ويمّمْ

قد خصّ ببيروت بالبخاري

يا ليته خصّها بمسلم

فلما قرأ الجزار البيتين وفهم التورية بين مسلم والبخاري؟ أمر كاتبه أن يكتب لذلك المغربي كتاباً يأمره فيه بالقدوم هو وعسكره الى عكا ولا يتباطأ مقدار طرفة عين فأزاله من يزيل الجبال وكفى الله المؤمنين شر القتال. (ذكر الحصني البيتين بلفظ آخر).

وهجا البربير رئيس العسكر قائلاً:

وجهولٍ تعريفه كلب خاري يوهم الناس أنه كالبخاري

هاج في رأسه بخار طعامٍ فهو يروي حديث ذاكَ البخارِ

يروي الجبرتي في تاريخه أنه كان للجزار اعتقاد كبير واحترام عظيم للسيد محمد مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس». وقد أرسل الزبيدي مرة الى الجزار مكتوباً ذكر له فيه أنه المهدي المنتظر وسيكون له شأن عظيم فوقع عنده الصدق لميل النفوس الى الأماني وأن الجزار وضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمائم فكان يسرّ بذلك الى بعض من يرد عليه ومن قدم عليه من مصر وأخبره أنه اجتمع بالزبيدي وأخذ عنه أحبه وأكرمه وأجزل صلته وإلا قطب منه وأبعده وأقصاه عنه ومنع عنه برّه.

البربير والجزار والزبيدي وغنّت أمان

من اللطائف التي نقلها البربير من مجلس الجزار قال «كنت مرة في عكا لزيارة الوزير الجزار رحمه الله رحمة الأبرار وتجاوز عنه أنه حليم غفّار فاتفق ان جاءه من مصر كتاب كريم مشحون بالجوهر الثمين والدر اليتيم دال على أن مرسله في الفضل وحيد عصره وشافعي مصره غير انه مكتوب في إمضائه «غنت أمان» فلم يعرف الجزار من أرسله فاطلع البربير عليه وسأله عن مرسل الكتاب فأجابه قد ظهر لي أن مرسله جناب شيخنا السيد محمد مرتضى (الزبيدي صاحب «تاج العروس من جواهر القاموس») فقال الجزار: ومن أين لك هذا؟ قلت: اني نظرت الى قوله (غنّت) فوجدتها مطابقة (لمرتضى) في العدد، ونظرت الى (أمان) فوجدتها مطابقة (لمحمد) فقال: وكيف قال غنّت أمان وكان من حقه أن يقول غنّى؟ قلت لان عندهم الآن بمصر امرأة حاذقة بفن الموسيقى تسمّى (أمان) فسرّ الجزار بذلك وانشرح وكاد يطير من الفرح» (قوله بالعدد أي بحساب الجمل أبجد هوز الخ باعتبار الألف = 1 والباء =2 الخ).

وكانت علاقة مفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف فتح الله بالجزار علاقة وثيقة كشفت عنها قصائده، منها واحدة مدح فيها الجزار وأبدى عاطفته وعاطفة أهل بيروت تجاهه فقال:

إني امرؤ ممن يحبون الذي

أحببته ولمن يغضب يعادو(ن)

ومن الذين حديث شكرك عندهم

يتلى لديهم دائماً ويعادُ

هم أهل بيروت الذين تزينت

منهم بدر عطائك الأجياد

وملكتهم وودادهم لك صادق

ما إن لهم فيمن سواك وداد

لا نقص فيه ولست فيه مشاركاً

بل فيك دوماً لم يزل يزداد

يذكر أن الشيخ يونس نقولا الجبيلي الشهير بأبي عسكر كان متسلماً جمرك بيروت، فكان الجزار عندما يحضر الى بيروت يتردد على الشيخ يونس فكان يكرمه. وكان الجزار يحرّر له رسائل يقول فيها «فخر أمثاله الصادق بأقواله محسوبنا الشيخ يونس نقولا» ثم ألبسه الخلع وقلّده رئاسة جمرك بيروت وعاد نصارى بيروت إليها بهمّة الشيخ يونس كما روى عبد الله طراد. وروى القس حنانيا المنير أن أبا عسكر كان محباً للجميع محبوباً من الجميع حتى انه كان ينهض كل يوم من داره الى الديوان فحيثما مرّ في الأسواق قامت إليه الناس من المسلمين والنصارى تحييه فيردُّ التحية. وكان بيته في محلة الشيخ رسلان (فيما كان يعرف بالساحة قرب مبنى البلدية) وكانت دار بيته وسيعة فكان البيارتة يستعيرونها لإقامة أفراحهم وزيجاتهم ثم نقلوا ذلك الى دار الشيخ علي الفاخوري والد المفتي الشيخ الباسط كما ذكر الشيخ عبد القادر قباني في مذكراته.

 * مؤرّخ