بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تشرين الأول 2021 12:00ص الأسوة التي نحتاجها في زماننا

حجم الخط
الشيخ د. أسامة حداد*


قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [سورة الأحزاب:21].

شرّف الله تعالى الوجود بمولد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واستنارت به الأكوان، كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم مِنَّةً عظيمةً من الله تعالى على الناس، وكيف لا؟ ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم مولدٌ للهداية بعد الضلال، ومولدٌ للنور بعد الظلام، ومولدٌ للعدل بعد الظلم.

كان مولده صلى الله عليه وسلم ميلاد أمَّةٍ، لتغيِّر الواقع السيِّئ الذي كانت تعيشه البشرية، إلى واقع أصبح مثالاً يُحتذى به في الحضارة والطُّهر والنقاء، والرحمة العامة الشاملة لكل من عرفه وأحاط به، إنه صلى الله عليه وسلم رحمة بحنانه على المسكين، وعطفه على الضعيف، وشملت رحمته الصغير والكبير، والقريب والبعيد، والمؤمن والكافر، فنال بذلك رحمة الله رب العالمين، إذ يقول في كتابه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء: 107].

وكان مولده صلى الله عليه وسلم ميلاداً للأخلاق الفاضلة، والقيم السامية، وكيف لا؟ وقد وصفه ربه بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم: 4].

أليس هو القائل؟: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ» رواه البيهقي.

الأسوة الحسنة

لذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا بذيئاً، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان من أكثر النَّاسِ تَوَاضُعاً وتسامحاً، يُواسي الفُقراءَ وَيَسْعى في قضاءِ حاجةِ الأرامِلِ والأيتامِ والمساكينِ والضُّعفاءِ، فما أعظَمَهُ من نبيٍ وما أحلاها من صِفاتٍ، ما أحوجنا أن نَتَجَمَّلَ ونتحلى بصفاته الكريمة؛ لنكونَ على هديِهِ صلى الله عليه وسلم، لا سيما في هذا الزمان الذي ابتعد فيه الناس عن دينهم، فلنهذّب أنفسنا، ولنطهّر جوارحنا، ونربّي أبناءنا على هذه الأخلاق الإسلامية السامية، وعلى محبةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ خلالِ التأسِي بصفاتِهِ وأخلاقِهِ، ودراسةِ سيرتِهِ العطرةِ المباركَةِ، وسيرةِ أهل بيته وأصحابِهِ رضوانُ اللهِ عليهِمْ أجمعينَ، الذينَ ربَّاهُمْ، فصنَعَ منهُمْ خيْرَ أُمةٍ أُخرجَتْ للناسِ..

فلنتعلم منه صلى الله عليه وسلم كيف تعامل مع أسرته، حيث كان يحدِّثهم بأطيب الكلمات وأرقِّ التعابير، ويلاطفهم، ويُدخل السرور على قلوبهم، واذا أردتم أن تعرفوا أخلاق رجل فاسألوا عنه زوجته، وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم تصف أخلاقه بقولها: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ».

وكان صلى الله عليه وسلم على درجة عالية من المحبة في تعامله مع مجتمعه، فكان يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، ويهتمُّ بقضاياهم، ويسعى لحلِّها، ومن هنا يستمد المجتمع قوته وصلابته، ويطمئن الناس إلى بعضهم البعض، وتزداد ثقتهم ببعض، فيزول من المجتمع البغض والكراهية، ويحل الوئام والمودة، وتزول الآلام وتتحقق الآمال.

وكان صلى الله عليه وسلم قدوة في قيادته، فهو القائد المتواضع الناجح؛ الذي يسهر على مصالح الناس، ويستشعر قدر المسؤولية الملقاة على عاتق المسؤول، ويغرس هذا المفهوم في النفوس؛ فهو القائل صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِه، الإِمَامُ رَاعٍ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري.

ويَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئاً فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَاتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ». رواه البيهقي.

وعلى هذا ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فلما تولَّوا أمر الناس من بعده جعلوه قدوتهم في ذلك، فأسعدوا مجتمعهم وأعزّوا دينهم..

المحبة اتباع

ولذلك أصبح حال كل مسلم مؤمن يقول: إني أحبك يا رسول الله..

نحبك يا رسول الله، لأن أقوالك وأفعالك مليئة بالهدى والخير والنور..

نحبك يا رسول الله، لأنك تحمّلتَ كل المشاق والتعب، لكي نسعد ونرتاح، فإليك يرجع كل فضل علينا بعد فضل الله تعالى، فقد بلّغتَ الرسالة، وأديتَ الأمانة، ونصحتَ الأمّة، وكشفَ الله بك الغُمّة..

نحبك يا رسول الله: لأنك لم تترك خيراً إلا ودللتنا عليه، ولم تترك شراً إلا وحذرتنا منه..

نحبك يا رسول الله: لأنك كنت أرفع وأرقى وأسمى نموذج حيّ في الحياة، كنت أرقى صورة للمعلم المربّي الفاضل، وللزوج المثالي، وللحاكم العادل، وللقائد الصادق، وللأب الحاني..

نحبك يا رسول الله: فمن أخلاقك علّمتنا الأخلاق، ومن عبادتك علّمتنا كيف نعبد الله، ومن شجاعتك علّمتنا الشجاعة وعدم الخوف إلا من الله، ومن كرمك علّمتنا الكرم، ومن عفوك وصفحك علّمتنا العفو، ومن رحمتك علّمتنا الرحمة والرأفة..

فلنفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كما يُحب، وليكن حبنا له صلى الله عليه وسلم حبّاً عملياً وليس عاطفياً فقط، والحب العملي هو أن نقتدي بهديه ونعمل بسنّته ونتخلّق بأخلاقه، وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم وجدنا أن كثيراً من المسلمين يكتفون بالصلاة عليه وإظهار محبته ولكن أخلاقهم سيئة، يتمسّكون بالمظهر ويتركون الجوهر، فهل تكفي تربية اللحية مع النفاق وسوء الأخلاق؟ وهل يكفي لبس الحجاب على الرأس مع الغيبة والنميمة والطعن بالأعراض؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي تصوم النهار وتقوم الليل ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها: «لا خير فيها، هي في النار..»؟ رواه أحمد.

جميل جداً أن نشاهد الفرح بالمولد النبوي الشريف.. ولكن الأجمل أن يفرح النبي صلى الله عليه وسلم بأخلاقنا وسلوكنا وتعاملنا مع غيرنا.

نسأل الله تعالى أن يفهمنا جوهر ديننا، ويخلقنا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

وكل عام وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته حيّة فينا وفي سلوكنا ومجتمعنا..



* المفتش العام للأوقاف الإسلامية في دار الفتوى