بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 كانون الثاني 2022 12:01ص تعتير الدراويش.. ونعيم أسيادهم..؟!

حجم الخط
لا أدري ما هي الأسباب التي أدَّت إلى استقرار مفهوم خاطئ في وجدان ملايين المسلمين في عالمنا، ومفاده أن المسلم الحق هو هذا الإنسان الذي يعيش مكسور الجناح، ضعيف الحجّة، لا يبالي بجمال لباسه ولا بحسن حاله، بل هو مستسلم في كل أموره لما تتفق عليه الدنيا من حوله تحت ستار (النصيب) و(ترك الدنيا) و(طلب الآخرة)...

«فالدروشة» بمفهومها الشعبي والتي تعني الرضا بالاستضعاف والفقر والمسكنة دون أن يكون للإنسان جهد واضح في تغييرها، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تكون من صفات المسلم لأنها في واقع الأمر تخالف كل ما أمر به الإسلام الحنيف.

ولعل من أوائل الأخطاء التي انتشرت وساهمت في تثبيت هذا المفهوم هو شعار (دنيا ودين) الذي ساد في بلادنا، فاعتقد الناس أنهم من خلاله يجمعون متضادين معا: (الدين والدنيا)، ولذلك سمعنا أقواما يقولون (نحن طلاب دين لا طلاب دنيا)، وهذا خطأ فادح، فالدنيا لا تتعارض مع الدين، كما أنها ليست ضده أو عكسه، بل ضد الدين الكفر، ومقابل الدنيا الآخرة.

ومع مرور الأيام استقرّ هذا الفساد في نفوس كثير من المسلمين حتى تطوّرت السلبية في أفكارهم تجاه كل ما في هذه الحياة...

فالمسلم الغني صاحب المال الحلال هو إنسان بعيد عن الدين يرتكب الحرام ويعيش في المعاصي والذنوب.. فقط لأنه غني..؟!

والمسلم الفقير يعيش في نعمة وفضل من الله ومسكنه الجنة يوم القيامة.. لأنه فقير.. ولأن الفقراء مأواهم الجنة..؟!

وهكذا في كثير من الأمور... حتى أقمنا «سدودا إسمنتية» بيننا وبين الدنيا، فهجرنا العمل في حركة الحياة اليومية وتركنا لغيرنا، وجلسنا في الركن المظلم نواسي أنفسنا بأن الدنيا ليست لنا... بل لنا الجنة ولغيرنا الدنيا والنار..؟!

إصلاح الفكر واجب

ولكن اسمحوا لنا أيها الاعوجاجيون في كل مكان... فالدنيا في ديننا الحنيف هي مزرعة الآخرة.. وهي مكان العمل للآخرة... وهي الاختبار الذي جعله الله تعالى لنا ليعلم العامل منّا من الراكد..؟!

ألم يقل سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}..

ألم يقل أيضا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ... لآيات لقوم يتفكّرون}، فمن الذي أخبركم أن المسلم يريد الآخرة بترك الدنيا..؟!

ألم يآخي النبي صلى الله عليه وسلم  بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري عند الهجرة، فقال سعد لعبد الرحمن: أي أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا; فانظر شطر مالي فخذْه، وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلّوني على السوق. فدلّوه، فذهب فاشترى وباع فربح، فكان من أغنياء المسلمين وهو من الصحابة المبشرين بالجنة..؟!

فلمَ تركنا الدنيا حتى ما عادت لنا..؟!

ولِمَ هجرنا ميادين العلم والعمل والبحث والابتكار والاختراع والإبداع والاتقان..؟!

ومن الذي روّج لهذه الفكرة الخبيثة التي جعلت الدين في مواجهة مستمرة مع حركة الحياة..؟!

أليس كل ذلك دليل على خلل واضح وجليّ في الفكر المنتشر عند كثير من المسلمين..؟!

والأدهى من ذلك كله أن معظم «المعممين» الذين يطالبون الناس «بالدروشة» واتخاذها منهجاً في حياتهم وترك الدنيا واعتزال نشاطاتها وميادينها... هؤلاء «المعممون» هم أنفسهم الذين يعيشون في ترف ورفاهية، ويسافرون إلى مختلف البلاد للسياحة والراحة، ويستفيدون من متاع الدنيا، ويلحقون أولادهم في أرقى المدارس والجامعات، وإذا مرضوا دخلوا أشهر المستشفيات، بينما أتباعهم (الدراويش) يدرّسون الأبناء في المنزل، ويتداوون بحبة البركة والزنجبيل..؟!

والأدهى من الأدهى السابق... أن هؤلاء المضحوك عليهم... ما زالوا يصدّقون الضاحكين عليهم.. فتراهم ببؤسهم وفقرهم و«تعتير» حالهم... يلهثون خلف سيارات الضاحكين ليفتحوا لهم الأبواب ويتبرّكوا بعباءاتهم النفيسة والغالية، ويقبّلون أياديهم التي مُلئت بأفخم أنواع العطور.. لعلّهم ينالون لفتة من لفتات الضاحك عليهم المباركة..؟!

الإسلام دين العمل والعزّة

أيها السادة الأكارم...

الإسلام يريد أتباعا أعزّاء... أكفّاء... ناجحين في أعمالهم وفي أسرهم وفي شركاتهم وفي بلادهم، يحاربون الظلم والفساد وينصرون الحق والخير، ويعطون البشرية خير العطاء لأنه دليل على حسن إيمانهم...

يريد أتباعا يؤثرون في الكون كله خلقا وعلما وإيمانا وحضارة... لا يريد إمعات تكون عالة عليه..

الإسلام يريد أتباعا يعملون في الدنيا ليكونوا أسيادا، أما من أراد عكس ذلك فرجاء لا تجعل تخاذلك وقعودك وتقاعسك جزءا من الدين، لأن الدين بريء منك ومن أمثالك، سواء كنت من «المضحوك عليهم»... أو «من الضاحكين على الناس»..؟!




Bahaasalam@yahoo.com