بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 تموز 2022 12:00ص في ذكرى الهجرة النبوية.. العلماء يؤكّدون: تُعلِّمنا مواجهة الظلم وبناء الأوطان على أُسس سليمة

القاضي د. محمد النقري القاضي د. محمد النقري
حجم الخط
شكّلت الهجرة النبوية الشريفة نقطة تحوّل هامة جداً في تاريخ الأمة الإسلامية، ولا سيما أنه تبعها قدرة المسلمين على تنظيم صفوفهم ومجابهة الأعداء والانتصار عليهم وتوسيع أطراف الدولة الإسلامية لتجوب كل أنحاء العالم، وهذا هو سبب احتفاء المسلمين بهذا اليوم المميّز في تاريخ الأمة.
ويأتي يوم رأس السنة الهجرية ليذكّرنا بقدر التضحية العظيمة التي قدّمها المسلمون الأوائل من أجل رفع راية الإسلام عالية خفّاقة لكي لا ينال منها أعداء الدين، وقد نصرهم الله نصراً عزيزاً وأيّدهم بجنوده حتى عادوا إلى مكة بعد ذلك فاتحين منتصرين.
وها هي تطلُّ علينا رأس السنة الهجرية الجديدة محمّلة بالأزمات والآلام والضائقات التي يُعاني منها المسلمون، ماذا يقول العلماء في هذه الذكرى المجيدة؟..

الكردي
بداية قال القاضي الشيخ أحمد درويش الكردي: ان السنة الهجرية تؤكد على حدث عظيم وهو الخروج من دائرة الظلم إلى دائرة الحرية، وان النبي عليه الصلاة والسلام، دعا أهل مكة إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان والأصنام، وترك كل الأخلاق السيئة من قطيعة الرحم ووأد البنات وشرب الخمر والزنا والفواحش وصبر عليهم هو وأصحابه ثلاثة عشر عاما، بعد ما هاجر بعض أصحابه الى الحبشة، ولما أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة أمر أصحابه أن يهاجروا الی المدينة المنورة والتي كانت تُعرف في ذلك الوقت بيثرب، ولما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام بصحبة أبي بكر الصديق لاحقهما المشركون حتى يأسروهما أو يقتلوهما ولكن الله تعالى نصره عليهم فعمى أبصارهم عنه وفي ذلك يقول الله تعالى في كتابه العزيز {إلَّا تَنصرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفرَوا ثاني اثْنَيْنِ إذْ هُمَا في الغارِ إذْ يقولُ لصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا}.
وتابع قائلاً: ان الدروس التي تأخذ من الهجرة النبوية الشريفة كثيرة جداً من أهمها القيام بوجه الظلم والفساد، وثانيها اختيار الصاحب المخلص، وثالثها البحث عن مكان يستطيع الإنسان فيه أن يحقق كل ما يريد بما يرضي الله تعالى، وكذلك الهجرة هي بمعناها الصحيح ترك كل شيء من أوطان وأهل في سبيل الله تعالى، فقد هاجر أصحاب النبي وقد تركوا أوطانهم وبلادهم وأحوالهم وأهلهم طاعة للّه تعالى والنبي عليه الصلاة والسلام حينما هاجر إلى المدينة المنورة أول ما بني بنى المسجد الذي يجتمع فيه المسلمون ليكون منارة خير وهدى ووضع نـظام الأخوة بين المسلمين وآخى بين المهاجرين والأنصار وجعلهم أمة واحدة، ومن ذلك الوقت ظهرت أمة الإسلام التي أحيت من الله في الأرض..
ولفت إلى انه إذا أردنا أن نربط موضوع الهجرة النبوية بواقعنا الحالي، فلا بدّ من القيام بقوة وعزم لمواجهة الظالمين والفاسدين إرضاء لرب العالمين، لأن السكوت على الظالم ظلم وان واقع النّاس اليوم في شدّة وضيق وسببها هذا النظام الفاشل الذي يضيّع الأوطان والبلاد لأنهم يتهافتون اليوم لرهن البلد مرّة أخرى للبنك الدولي وكأنه لا يكفينا الدين العام الذي قارب مائة مليار دولار ولربما أكثر..
النقري
أما القاضي الشيخ د. محمد النقري فقال: عندما ذكر الفقهاء اختلاف الأمكنة والأزمنة كمعيار في تبدّل بعض الأحكام وفق القاعدة الشرعية «تتبدّل الأحكام بتغيّر الزمان والمكان»، إنما قصدوا بها الأحكام المستندة الى الأعراف وعادات الناس، ولأنه بتغيّر الزمان تتغيّر احتياجات الناس فيتغيّر العرف والعادة وبتغيّرهما تتغيّر الأحكام، وكذلك الأمكنة، فما كان معتمداً عند الإمام الشافعي في مذهبه القديم في العراق مثلاً، لم يعد كذلك في مذهبه الجديد بعد إقامته في مصر. عدم النظر في هذه القاعدة الشرعية على إطلاقها دفع بالمقلدين في العصور التي تلت الحروب والغزوات على بلاد المسلمين وخاصة حروب الإفرنجة (الصليبية) واستقرارهم في بعض بلاد المسلمين خلال ما يقارب القرنين من الزمان، وما تبعه من اندماج العادات والتقاليد غير الإسلامية في المجتمع، الى دعوة فقهاء ذلك العصر وما تليه الى غربلة هذه العادات وإحياء الذاتية الإسلامية للحد من تقليد المسلمين لهذه الأعراف، والتي كان من ضمنها إصدار الأحكام الفقهية التي تحذّر المسلمين من تقليد غير المسلمين في أعيادهم وأفراحهم.
تبدّلت هذه الأزمنة وأصبح إعمال هذه الأحكام في إطلاقها بعد انحلال النظام السياسي الإسلامي، نقمة على المسلمين وأبنائهم في العصر الحديث. إذ تبنّى كثير من المسلمين وبإصرار الاحتفالات بالمناسبات الدينية المسيحية وما رافقها من عادات وتقاليد، استدعت لمواجهتها علماء الدين المسلمين دون أدنى جدوى، الى تقطيب جباهم وشحذ حناجرهم والإنقضاض على فاعليها ومحاربتهم تحت شعار مكافحة البدع في الإعتقاد السليم وإعلام مروّجيها بالخلود في نار الجحيم.
وأضاف: فمن مظاهر المقارنة غير المتكافئة ما درج المسلمون والمسيحيون على القيام به للاحتفال بمناسبتي الميلاد ورأسي السنة - الميلادي والهجري - بطريقتين مختلفتين، فبميلاد السيد المسيح عليه السلام، ورأس السنة الميلادي تزيّن الطرقات والمباني وتوضع شجرات الميلاد في البيوت وتعمّ الفرحة والسعادة في قلوب الناس وتستذكر قصة ميلاد المسيح، وتقدّم الهدايا والتهاني ويلعب الأطفال ويتسامر الشباب ويتبادل الكبار القصص والأخبار ومجريات الأحداث. وفي احتفالات رأس السنة الهجرية والمولد يقتصر القلّة من المسلمين على حضور الاحتفالات التي تقام في بعض المساجد للإستماع إلى الكلمات الدينية وإلى بعض الأناشيد النبوية. هكذا بكل بساطة، نسي المسلمون كيف يحتفلون بذكرى رأس السنة الهجرية وبمولد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت مظاهر الاحتفالات تعمّ البلاد وتخرج الفرق الصوفية إلى الشوارع والحارات وتزيّن المباني بالفوانيس والأعلام ويتعالى أصوات المنشدين بالتواشيح الدينية، والى تبادل التهاني وتوزيع الحلويات.
سبق أن تساءلت في مقال سابق نشرته «اللواء»: كيف وصلنا إلى هذا القحط والجفاف الاحتفالي والاستعراضي في أعيادنا ومناسباتنا الدينية الإسلامية؟ كيف سمعنا وسمحنا لأصوات التشدد والإنغلاق أن تملي علينا تراثنا وتقاليدنا وعاداتنا الإسلامية وتوهمنا بأن ما نقوم به ليس إلا بدعاً يحاربها الدين. إن مجتمعنا التعددي المنفتح يتطلب منا أن نكون دائماً على أهبة الإستعداد الاحتفالي الإسلامي عندما يتعلق الأمر بالتنافس الحميد مع الطوائف الدينية الأخرى.
وقال: أننا بحاجة في مجتمعاتنا المتعددة الطوائف والأديان إلى رمزية إسلامية تتناقلها الأجيال وتبعث في أطفالنا البهجة والشوق إلى الاحتفال بعيد رأس السنة الهجري وذكرى ولادة نبينا المجتبى، وتكون مناسبة ننتظر قدومها في كل سنة تتربّى عليها أجيالنا على الدروس والعِبَر التي نستذكرها في هجرة النبي الى المدينة، وإلى قراءة السيرة النبوية العطرة وفق أحدث تقنيات العلم الحديث، ومحطة أساسية متطورة ننقل فيها إلى العالم مقومات شخصية نبي السلام والمحبة والرحمة.
هذه الرمزية التي تفهمها المجتمعات المتعددة الطوائف والأديان قبل غيرها، ليست وثنية ولا جاهلية كما سيحلو للبعض تسميتها، وإنما هي حاجة تربوية ونفسية واجتماعية يؤكدها علماء التربية والنفس والاجتماع. ما الضير لو تزيّنت حاراتنا وبيوتنا في رأس السنة الهجرية والمولد بالنخلة العربية والغار الذي تغطي بابه خيوط العنكبوت والحمام الراقد على مدخله، وبتهاليل موسيقية «طلع البدر علينا». أليس في هذه الرمزية ما يجلب الفرحة لأطفالنا وللأسر الإسلامية في كافة أنحاء العالم؟!
إن مشكلتنا ومشكلة المتشددين لدينا أنهم يبرعون في الهجوم والانتقاد عند كل مظهر يدّعون أنه خارج عن تعاليم الدين، ولكنهم يفشلون دائماً في إعطاء الحلول والبدائل. إن القحط والجفاف في الجانب التصوري والرمزي والاحتفالي الذي ألحقه متعصبو الإسلام بالأعياد والمناسبات الدينية وألحقوه بمظاهر الشرك جعل كثير من المسلمين ينسون ويهملون تماماً الاحتفال بذكرى ولادة نبيهم أو بذكرى رأس السنة الهجرية ويستبدلونه بتقليد إخواننا المسيحيين باحتفالاتهم ووضع أشجار الميلاد في بيوتهم. 
 دعونا أيها السّاعون إلى الإنغلاق والجفاف والتقوقع، نحتفل بعيد رأس السنة الهجرية وبذكرى ولادة نبينا كما يحلو لنا وكما يتوافق مع حضارة ورقيّ إسلامنا ومع وضعيتنا وخصوصيتنا كمجتمعات متعددة الأديان والطوائف ومنفتحة على اخواننا في الوطن ممن ينتمون الى الديانات الأخرى.