بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 تشرين الثاني 2017 12:05ص مؤسسات الخير والبِرّ بلا ريع أوقافها لا تستمر

حجم الخط
  في أمثال البيارتة التي ذكرها الحاج سعد الدين فروخ المثل القائل: اذا لزم الزيت للبيت حرام على الجامع ونقل انيس فريحة في معجم الأمثال  من الأمثال السورية اللبنانية المثل: جامع (بيت) بلا عيش قنيانه ليش؟ وتفيدنا واقعات الدهور وحادثات العصور ان  بناء المساجد والزوايا والمدارس الخيرية ترافق دوماً مع انشاء اوقاف يخصص ريعها لوظائف تلك المؤسسات  والتي لم تستمر بأداء  الغاية منها إلا بفضل الأوقاف المذكورة  فلا تبقى معرضة لوفاة الباني أو تدهور حالته المالية. وبصرف النظر عما اذا كانت غاية الواقف  من عمله  التقرب لوجه الله الكريم  والطمع بثوابه العميم أو كان لغاية سياسية  ومن باب  الوجاهة فتحقيق غايته معلق على ما يحبس من وقف. ذكر الجاحظ في البيان والتبيين قول بشر بن المعتمر «من أراد معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً. وقد درجت  العادة على تكريم اوقاف اهل الخير بالتقديم لوثائق أوقافهم بألفاظ كريمة القضاة و الاحتفال بالوقف وتكريم الواقف يذكر ان القاضي الفاضل بعد ان وقف القيسارية المنسوبة اليه « زفّ كتاب وقفها بالأغاني في شوارع القاهرة للإعلام عن الوقف وتعريف الناس بالوقف  وشروطه».

الصدقة
الصدقة هي أول الأصول التي اعتمد عليها وجود الوقف في الفقه الإسلامي. وهي الفكرة التي تتضح من قول النبي  صلى الله عليه وسلم  «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع بـــه أو ولد صالح يدعو له»، وقد ترتب على ثراء كثير من الصحابة في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما أن أكثروا من الصدقات الموقوفة التي حبسوها على أبواب الخير ووجوه البر إلا أن الأحباس انحرفت عن غايتها الشرعية واتجه الواقفون الى استخدام شريعة الوقف ليحرموا من يشاءون من ورثتهم وشاع في أواخر عهد الصحابة اتخاذ الوقف ذريعة لحرمان بعض البنات من نصيبهن وقد همّ عمر بن عبد العزيز ان يبطل الصدقات التي كان يحرم فيها النساء ولكن المنية عاجلته. واقترنت كلمة الصدقة بالأوقاف في وثائق الوقف فما يرد فيها ان الواقف «وقف وحبس وسبّل وأبّد وحرم وتصدق». وشكل الوقف الخيري المورد الرئيسي لطلبة العلم والعاملين فيه وكانت الرغبة في الثواب هي الدافع لهذه الأوقاف فالإنفاق على طلبة العلم هو أفضل أنواع الإنفاق.
وقد قامت الأوقاف باعتبارها صدقة جارية بدور كبير في مجال الرعاية الاجتماعية والتكافل وتأتي أهميتها أنها تكثر في زمن الازدهار الاقتصادي ما يؤدي الى ثراء بعض الأفراد الذين يقدمون بعض أموالهم إيماناً واحتساباً فيما بعضهم يبحث عن الوجاهة والزعامة أو لغاية سياسية، وكثره الأوقاف في زمن الكساد الاقتصادي تؤمن استمرار عمل المؤسسات الصحية والتربوية والدينية ومنها المدارس والزوايا من ريع الأوقاف المرصد ريعها الى تلك المؤسسات، مما يساعدها على تجاوز الأزمات ولولا الصدقة الجارية لما استطاعت المدارس والمساجد والمستشفيات الصمود واستمرار خدماتها على مدى عقود من الزمن.
قيدت أوقاف المساجد والزوايا في أول سجل رسمي افتتح  في المحكمة الشرعية بيروت سنـــــة 1843م  إلا أنه لم تعرف تفاصيل ومحتويات الوقفيات ولا تواريخ وقفها وأسماء واقفيها ومتوليها. أما الأوقاف التي كانت مخصصة للتعليم والتطبيب ومواساة الفقراء فلم تسجل في السجل الشرعي المشار اليه وبقيت بدون تحقيق حتى سنة 1878م عندما تأسست جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية من أجل التعليم والتطبيب والمواساة فارتأى مؤسسوها ضم الأوقاف المخصصة للغايات المذكورة الى الجمعية، فتألفت لجنة برئاسة مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري للنظر بتلك الأوقاف، وتبين ان بعضها خرب والبعض الآخر لا ريع له ويحتاج الى ترميم ولا يرغب أحد بتعميره أو استئجاره والبعض الثالث لا يعرف من المتولي عليه، فجرى وضع لائحة فيها حملها عمر غزاوي (والد عبد الله غزاوي أحد مؤسسي الجمعية) الى دمشق وحصل على توقيع والي سورية مدحت باشا بتسليمها للجمعية.
وإذا كانت نظارة الأوقاف المحلية أو محاسب جي الأوقاف قد قاما بالإشراف على المساجد والزوايا وعلى نصب الأئمة والمدرسين والمؤذنين والخطباء وتحديد أجورهم من ريع الأوقاف الخاصة بكل منها، فقد تمكنت جمعية المقاصد بما سلّم اليها من أوقاف من فتح مدرستين للبنات أولاً ثم للصبيان وحرصت على بناء جامع بقرب كل مدرسة، واستطاعت بذلك تعليم وتخريج مئات الطلاب من مسلمي بيروت وغيرها مئة وتسعة وثلاثين عاماً ولا تزال تتابع مسيرتها ، ولا بد هنا من الإشارة الى أن محمد أياس (صاحب السوق الذي اشتراه من ورثة عبد الفتاح آغا حمادة وعرف باسمه) تبرع سنة 1879م بمحل واقع فوق باب السرايا  القديمة الذي كان قد اشتراه بمبلغ تسعة الآف غرش الى جمعية المقاصد لجعله مدرسة باسمه ثم اتفق مع الجمعية على أن يسلمها عوضا عن المحل مبلغ عشرين الف غرش لإنشاء مدرسة.
استمرار وظائف المساجد والزوايا من ريع أوقافها
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر (الآية) وتعمر المساجد والزوايا بالصلوات  والعبادات وتؤمن الوظائف الدينية  والخدمات من ريع الأوقاف المخصصة لها.
فهذا الريع حفظ دور جامع النبي يحيى على الأقل منذ سنة 1291م عند استعادة المسلمين لبيروت وتحويل كنيسة النبي يحيى الى جامع عرف بجامع فتوح الإسلام أو جامع النبي يحيى (لوجود الكف اليسرى للنبي يحيى في مقصورة الجامع)  وسمي الجامع العمري الكبير (لتمييزه عن الجامع العمري الصغير أو جامع البحر الذي أنشأه المسلمون عند فتح بيروت على التل قرب موقع قلعة بيروت).
وبقيت نفقات  الوظائف الدينية  في الجامع الكبير ما يقرب من سبعمائة عام  ولا تزال تصرف من ريع أوقافه على الخطباء والأئمة والمؤذنين والفراشين ويصرف منه أيضاً على إنارته بالشموع  والزيوت قديماً ثم بالكهرباء حديثاً وعلى تأمين المياه للشرب وللوضوء ودفع نفقات إصلاحه وترميمه. وللجامع المذكور محبة خاصة في قلوب مسلمي بيروت ففيه استمعوا الى خطب الجمعة وأدوا صلوات الجماعة والعيدين وأحيوا ليالي رمضان وتبركوا بالشعرات النبوية الشريفة.وعقدت فيه حلقات  الدرس والتفسير والقراءات من الشيخ أحمد البربير والعالم محمد المسيري الاسكندري والشيوخ عبد اللطيف فتــح الله وأحمد الأغر وعلي الفاخوري و محمد الحوت  وعبد الباسط الفاخوري  وتخرج من حلقاته الكثيرون ممن  أدّوا دوراً في النهضة. 
كما صلى البيارتة فيه صلاة الجنازة  على أحبتهم.  وسمي الجامع بالعمري الكبير وسيبقى كبيراً بما بثه من شحنات  روحانية  طيلة سبعمائة عام ولو سجلت الخطب والمواعظ والدروس التي القيت فيه لشكلت مجلدات.
وما قلناه عن الجامع العمري الكبير يقال مثله عن جامع الأمير منصور عساف أو جامع السراي أو جامع دار الولاية لقربه من سراي الوالي الذي أقامه الأمير منصور بن حسن بن عساف التركماني سنة 1523م ولا تزال الشعائر الدينية قائمة فيه. ويقال مثله أيضاً عن جامع الأمير منذر الذي أنشأه الأمير منذر سنة 1623م وعرف بجامع النوفرة لوجود نافورة بركة صحن المسجد. كما عرف بالجامع المعلق لارتفاعه عن سطح الأرض فكان يصعد بعدة درجات الى بابه الشرقي قبل فتح بابه الغربي على شارع فخر الدين (المصارف). ولا تزال الشعائر الدينية تقام فيه. ويشتهر جامع النوفرة بأن أول مدرسة إسلامية في بيروت أقيمت في أحد غرفه برئاسة الشيخ عبد الله خالد .ويقال أيضاً عن جامع الخضر عليه السلام على الأقل منذ سنة 1661م عندما أعاد الوالي  محمد باشا الكوبرلي إقامة الشعائر الإسلامية فيه وطهره من أعمال ابن معن كما ذكر في  اللوحة الرخامية التي كانت مرفوعة فوق بابه. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن زاوية البدوية القديمة وعلى الزاوية الجديدة التي عرفت بجامع الباشورة أو البسطة التحتا أو الأحمدين ( أحمد البدوي ووالي سورية أحمد حمدي باشا). وكذلك عن  جامع الدباغة الذي بني قسم منه على سور بيروت وعرف بالدباغة لوقوع دباغات المدينة خارجه. وقد هدم أثناء توسيع شوارع بيروت وفقاً لمشروع عزمي بك وأعطت البلدية للأوقاف قطعة أرض بقربه بني عليها جامع أبي بكر الصديق الحالي في شارع فوش.
ترافق بناء المساجد والزوايا والأسبلة مع أوقاف لتأمين نفقاتها
ترافق إنشاء الزوايا التي أقامها الصوفية للذكر والأوراد مع تخصيصها بأوقاف تسدد نفقاتها من ريع دكاكين وافران وأبنية فقد خصصت لزوايا الشهداء والحمراء والخلع (الفاخوري) وزنتوت والقصار والشويخ (المجيدية فيما بعد) والراعي  والدركاه. وأنشأ الشيخ علي القصار زاوية لعبادة الله بموجب وثيقة شرعية مؤرخة في 22 شعبان 1091هـ/1680م وأتبعها بأربعة وثائق وقفية على مصالح الزاوية شملت  ثمانية مخازن وأربعة حوانيت  وحديقة بجانب سور بيروت لصيق حمام الأوزاعي وحديقة ثانية قريبة من الأولى واستمرت الزاوية بفضل ريع هذه الأوقاف عامرة بذكر الله تعالى وعبادته حتى هدمها وبناء  جامع القصار الحالي.  
وفي محرم سنة 1098 هـ/1686م  اشترى الحاج مصطفى بن المرحوم الخواجه محمد الشهير نسبه بابن القصار من الحاج سيف الدين بن الحاج علي العالية الشهير بالسقعان حانوتاً في سوق الصبّانة بجوار البركة ثم وقفه وحبسه وقفاً شرعياً على مصالح البركة يصرف ما يحصل من أجرة الحانوت عليها من تعمير  وترميم. ووقف محمد سوبرة بئر ماء نابع لمن أراد أن يملي منه لا يعارضه معارض ولا يمانعه ممانع ابتغاء لوجه الله الكريم وأن يؤخذ مائة وخمسين غرشاً من أجرة نصف فرن بسوق القطن لصالح البئر من ترميم وثمن حبال ودلاء وتعريل. وفي سنة 1229 هـ/1813م توفي محمد السراج وكان قد أوحى بإعطاء اثنين وعشرين الف غرش من مال تركته لجلب ماء الدركه لبيروت من نبع الكراوية (تجاه الغومون بالاس) بشارع بشارة الخوري وإذ توفي بدون وارث فأصدر الوالي أمره لمتسلم بيروت وقاضيها ومفتيها لتنفيذ الوصية فنفذوا ما عرف ببركة السراج التي أرخ المفتي عبد اللطيف فتح الله إنشاءها. 
أما المساجد والزوايا التي أنشئت في بيروت منذ سنة 1843م وإلى اليوم فقد وجدت  وقفيات  لبعضها كزاوية الشويخ (المجيدية) كما أوقفت عقارات على مساجد أخرى فقد وقف الحاج ريحان بن عبد الله الزنجي في 10 رجب الخير سنة 1325 هـ/1907م  قطعة ارض بما فيها من أغراس وأبنية الكائنة في حين الباشورة ومساحتها 559 ذراعاً وقفاً صحيحاً شرعياً وحبساً مؤبداً مرعياً على جامع المصيطبة وجامع الأشرفية وجامع القنطاري وجامع قريطم.
 *محامٍ ومؤرخ