بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 شباط 2023 12:00ص الاقتصاد الوبائي

حجم الخط
باسم المجذوب

الاقتصاد علم انعكاس حالة المجتمع، يهتم بالبحث عن العلاقات التي تجمع بين البشر ورغباتهم وحاجاتهم والطرق والموارد والوسائل التي توفّرها لهم والعوائق التي تواجه غاياتهم وإيجاد الحلول لها, هو الإنتاج في حياة الإنسان وبيئته لتكون الأنظمة الاقتصادية مرايا لطبيعة الحياة بمختلف جوانبها السائدة في كل مجتمع.
قد يكون الوباء الأخير أطول فيروس عمرا في التاريخ, فسرعة انتشاره وتطور سلالته وقوة فتكه وضعف المناعة عند البشر التي تأثّرت بعوامل وتغيّرات طبائع وعادات الإنسان الغذائية والحياتية ونوعية الغذاء التي فرضها التمدّن ومتطلبات السباق مع الوقت التي لم تترك للبشرية خيارات وترف الاختيارات للتمتع بالغذاء السليم الذي ينتج الجسم السليم, ومع سهولة وسرعة انتقال البشر من دولة الى اخرى في عصر العولمة والمواصلات السريعة والسهلة وقد جعلت العالم أقرب مما كان عليه, إضافة الى تلوث البيئة من ماء وهواء وتربة التي بلغت حد التشبّع مع تقدّم وتطوّر الصناعات والزيادة في عدد السكان واحتياجاتهم, واستخدامات الإنسان للمواد السهلة الاستعمال توفيرا في الوقت والتكلفة تماشيا مع العادات المستحدثة في نمط الحياة السريع الذي أصبح فيه عامل الوقت من أهم وأولى متطلباته, كلها عوامل تشير الى عمر طويل للوباء وآثار قد لا تزول وستطبع عادات البشر بنظم ووسائل مستحدثة في مختلف نواحي حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
التغييرات لن تكون لحظة استثنائية مؤقتة في التاريخ, بل ستشكّل بداية تغيير في عادات وطبائع البشرية ولن يعود كل شيء لما كان عليه سابقا, فالعالم سيضطر إلى إعادة البحث والتفكير في مجمل الفلسفات والمبادئ والأفكار التي ظلت تتحكم في الحراك البشري على مدى عقود من الزمن في كل المجالات, طبيا ثقافيا اقتصاديا سياسيا واجتماعيا وعلى كامل رقعة الأرض, والاقتصاد بمعناه وشكله وبنيته الذي عرفناه لن يعود كما كان سابقا, فالأرض التي ضاقت بساكنيها على مدى العقود الأخيرة لربما ستتسع قليلا مع انحسار موجة الوباء مما يتطلب إعادة النظر في بنية وهيكلة الاقتصاد العالمي, فالجائحة قد أثبتت هشاشة النظام العالمي أمام كوارث وبائية طبيعية كبرى جعلته يتخبط في مواجهة هجماتها الأولى التي أذهلت العالم وباغتته بشراستها وأظهرت ضعفه في مواجهتها, كما أظهرت مدى الحاجة إلى تغيير في نظم السياسات الصحية والاقتصادية المتبعة.
ظاهرة طبيعية اجتاحت العالم بشراسة ألزمت البشرية تغيير أنماط عيشها وعملها وعاداتها مما أوجب على النظام الاقتصادي العالمي تعديلات على أساسيات وقواعد تم العمل بها على مدى عقود طويلة ناهزت القرن تقريبا وأصبح من الملزم إيجاد تعديلات بنيوية في نظام عملها لتواكب تطورات الوباء وتضمن مسيرة العمل في مختلف قطاعاته, قواعد مارسها العالم مع انتهاء الكساد الكبير أو الانهيار الكبير الذي حدث في العام 1929 مرورا بعقد الثلاثينات والذي اعتبر اكبر وأقسى الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين وقد بدا في أميركا مع انهيار أسواق الأسهم في 29 اكتوبر 1929 والمسمى بالثلاثاء الأسود وكان تأثيره على كل دول العالم تقريبا الفقيرة منها والغنية, فانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين, وتركت حينها تأثيرا كبيرا في الأنظمة الرأسمالية, حين توجه النظام الاقتصادي الرأسمالي الحر إلى اقتصاد موجه وخضعت بعض القطاعات الحيوية لنظام التأميم وأسهمت في وصول بعض الأنظمة الدكتاتورية الى السلطة في بعض البلدان, كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا, وهكذا كانت الأزمة الاقتصادية الكبرى نتيجة من نتائج الحرب العالمية الأولى وسببا من أسباب قيام الحرب العالمية الثانية، فهل سيحدث الوباء الخرق الذي أحدثه الانهيار الكبير أو الكساد الكبير في الاقتصاد العالمي؟ الواضح نعم فالاقتصاد العالمي ما بعد كورونا ليس كما قبله.
هو ليس أزمة كغيرها من أزمات العقود أو دورة كالدورات الاقتصادية التي يمرّ بها الاقتصاد العالمي, ما جرى هو حالة من الهلع أصابت اقتصاديات العالم بأسره على جانبي العرض والطلب سويا فعلى جانب العرض كانت الحاجة للتباعد الاجتماعي سببا في بقاء العمال في منازلهم وتوقف الرحلات الجوية وإغلاق المدارس والجامعات والنوادي الاجتماعية والمقاهي والمطاعم مع صعوبة الحصول على مكونات الانتاج مما أدّى الى انخفاض كبير في الإنتاج بمعظم القطاعات, والذي لم تعوّضه محاولات التأقلم بالعمل عن بُعد الذي استعانت به القطاعات التعليمية والأعمال الإدارية لعدد من المصالح.
أما على صعيد الطلب فقد أصاب الوباء مستوى الطلب بالضمور نتيجة انخفاض الإنفاق الاستهلاكي بسبب ضعف القوة الشرائية وتدني الإنفاق الإستثماري بسبب عدم اليقين وانغلاق أسواق التصدير السلعي والخدمي بسبب مشاكل النقل, كما ساهم القلق في تأجيل قرارات شراء السلع خاصة المعمرة منها وقرارات الإستثمار في مشروعات جديدة انتظارا لإنقشاع الغيمة الجائحة التي ضربت دورة الاقتصاد في العالم دون استثناء دولة أو قارة أو مجتمع مع تفاوت في خصوصيات تتعلق بحدة انتشار الفيروس وجاهزية المنظومة الصحية والقدرة على تعبئة الموارد لكل منها, وما يمكن قوله بشكل عام أن هناك توافقا على اهمية الحركة على ثلاثة محاور بالتحديد:
أولها أن يحظى القطاع الصحي بأولوية تخصيص الموارد, فالحفاظ على معدلات نمو مرتفعة له مبرراته القوية, لكن الحفاظ على الأرواح يأتي في المقدمة.
ثاني المحاور يرتبط بأفضلية تبني سياسات توسعية (مالية ونقدية) لتعويض النقص في الطلب ومساندة الشركات والأفراد الأكثر تضررا مع تبنّي حزم تحفيزية تتسم بزيادة الإنفاق وتوسيع مظلة الحماية الإجتماعية مع تفعيل تعويضات البطالة وتأجيل دفع الضرائب وهذا ما فعلته دول عديدة, منها أميركا التي وصل حجم حزمتها التحفيزية 10% من الدخل القومي واستراليا 9.7% وألمانيا 4.5% وكندا 3.6% والسعودية 2.7%, وبالنسبة للسياسة النقدية يعني قيام البنوك المركزية بتخفيض سعر الفائدة وتوفير النقود الضرورية لتمكين البنوك من تمويل راس المال العامل للشركات المتعثرة وإعادة جدولة ديون الشركات والأفراد الأكثر تضررا وتأجيل الأقساط المستحقة وهذا أيضا ما فعلته معظم البنوك المركزية في العالم, ولكن ما ان انحسرت حدة الوباء وحصل نوع من الإطمئان لدى مراكز القوى في اتخاذ القرارات ما لبثت ان عاودت سياساتها المالية التي سبقت الجائحة, فعمدت معظم البنوك المركزية في الدول المتقدمة الى العودة لرفع نسبة الفائدة على عملاتها وهذا ما شهدناه في العام 2022 حيث عمد الإحتياطي الفدرالي الأميركي الى العودة لرفع الفوائد بنسب غير مسبوقة مبررا ذلك بمحاربة التضخم وارتفاع الأسعار, وقد لحقت به معظم البنوك المركزية الأوروبية متناسين ما قد حصل في زمن اشتداد الجائحة والأضرار التي لحقت بمعظم قطاعاتها الإقتصادية, متجاهلين أن مصلحة الإقتصاد يجب أن تأتي في أولويات اهتمامات مراكز القوى في اتخاذ القرارات في حين كانت قرارات رفع الفوائد بنسب غير مسبوقة أتت خدمة للسياسة التي انتهجتها الحكومات بغاية تنفيذ تعهدات برامجها السياسية التي وعدت بها وهي الأكثر شعبية لدى ناخبيها وتتلخص بخفض الأسعار ومحاربة التضخم حتى ولو كانت على حساب النمو للناتج الوطني لاقتصادياتها, ومن المعروف ان تخفيض الأسعار ومحاربة التضخم تظهر نتائجها على المدى القصير, في حين ان نسب النمو وإنجاح قطاعات الإنتاج تظهر نتائجها في المدى المتوسط والبعيد, فالسياسة لخدمة الاقتصاد وليس العكس.
ثالث المحاور يتعلق بضرورة التنسيق بين الدول فيما تتخذه من قرارات وضرورة تبنّيها مبادرات حقيقية لدعم الدول الفقيرة, وذلك في إطار خطة اقتصادية منظمة ومدعومة من مجموعة الدول الكبرى والمتماسكة اقتصاديا, فالاقتصاد العالمي دائرة ان أصابها تفكك سيعيق النمو الاقتصادي والتجاري العالمي لأجيال, ولن يعتبر أحد بمنأى عن الآثار المدمرة لتفكك تلك الدائرة.
قد تكون ظواهر الطبيعة وردّات فعلها مؤشر على جحود البشر وذلك بعد فترة سماح تمنحها للإنسان ولم يحسن استغلالها فعبث بخيراتها ومواردها وقواعدها حتى أفسدها, لتبدأ بعدها فترة المحاسبة على ما جنت يداه, فالطبيعة أم تحنو على ابنائها من البشر والحيوان والنبات وترعاهم وتبذل كل ما تملك من قدرات لإرضائهم الى حين يطغو ظلم احدهم على الآخرين وتفقد الأمل في إصلاحه , لتجد نفسها مضطرة لمعاقبته حفاظا على بقية ابنائها, فالوباء قد ضرب الإنسان وعفا عن بقية الكائنات من نبات وحيوان, ذلك بعد ان كاد أحد أبنائها يطيح ببقية أخوته لعلّه يهتدي.