بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 نيسان 2024 12:00ص «الإستلاب الفني» لإسماعيل الأمين: الفن والوعي به

حجم الخط
«لطالما إصطدم الفن في تاريخه القديم والحديث، بالأنظمة السائدة، حتى الثورية منها، كما إصطدم بالمدارس الفنية ذاتها... هذا الكتاب يواكب عملية الإستلاب الفني منذ العصور القديمة... يكشف مصادرة البرجوازية كل نشاط فني... ويبقى خلاص الفنان في حبوره بفنه وإعتداده بنفسه، حتى يتمكن من مقاومة كل الأنظمة والنظريات والإملاءات التي تقمعه...».
هذه المقولات التي تصدّرت الصفحة الأخيرة من غلاف: «الإستلاب الفني: الدين، الثورة، الفن... لتدمير الفن»، للدكتور إسماعيل الأمين، إنما هو مراجعة دقيقة وشفّافة لتاريخ الفن في مواجهاته القاسية التي خوض فيها مع السلطة الرسمية، ومع المتسلّطين المتعاونين معها، بعد أن تخلّى عن رسوليته، بعد أن خسر رسوليته، بل بعد أن خسر المعركة مع القابضين على المال والسلاح، بإعتبار أن الملكية الفردية والملكية الجمعية وملكية السلطة، توحّدوا عليه، لجعله يخضع لهم، يخضع لإبتزازهم: المالي والأمني.
كتاب «الإستلاب الفني» يشرح هذه المعاناة القديمة والمتجددة، في كل مصر وفي كل عصر. يرى أن نبوغ الفنان وعبقريته، لمما جعله يتسيّد في القبيلة وفي العشيرة، تجلّى ذلك فيما تركه، على جدران الكهوف الخالدة، وكذلك فيما صاغه من شعر ونثر وحكمة، فكان السلطة والسلطان في آن. وكانت رسالته الفنية هذه، هي من نسيج الأيقونات القداسوية، صاغ المعلقات، فعلقت على جدران الكعبة، وأنشأ داره محجّة للزائرين والمتبرّكين، ونفح في قصبته، ورنّ على دفه، وخلع قدميه في المحافل، فكان بركة القبيلة والعشيرة، ومقصد الناس في زمانهم، أينما حلّ، وأيّما كان نشيده ونشدانه.
شرح الدكتور إسماعيل الأمين، كيف كان الفن عابرا للممالك وللدول وللامبراطوريات، غير أنه إفتقد سلطته، حين خضع للإبتزاز المالي والأمني من القوى الناشئة، تلك التي حملت عليه وأخضعته، وجعلته ورائها لا أمامها، فما عاد إماما، ولا عاد يحدو لها، بل صار يصفّق لها، صار رقما في صفوفها.
فتراجع دوره القيادي، صار تميمة المنزل، وتميمة السلطة. وتقدم المال عليه، تقدمت السلطة عليه، فصار دوره إلى تراجع في الحدود المرسومة له من الزمان والمكان، وخسر بذلك دوره الشمولي العام.
يراجع الدكتور إسماعيل الأمين المراحل المتوالية التي أخضعت الفن لغاياتها، فصار الفنان موظفا، وصار الفن وظيفة، وذلك في نطاق الدولة الناشئة. فكانت الحملات الدينية عليه، وكانت الحملات العسكرية المروّعة له، وكان إصطناع الفنانين المختلقين والمقلّدين، لأجل تروعيه وتسخيفه، وتسفيه وتسفيف أعماله.
يقول المؤلف في توطئته لعمله: أضع اليوم بين أيديكم محاولات الإجابة في مؤلف، قسم كبير منه ليس تأليفا، وإنما هو تقميش وإعداد وترجمة وتنظيم وتوضيح وشرح لأفكار فنانين ونقاد وفلاسفة غربيين حول الاستلاب الفني... هذا المؤلف ليس إلّا تحفيزا على البحث والتأليف. وليس بحثا نهائيا.
وفي فصول كتابه القيّم، يراجع المؤلف أصول الإستلاب الشعري عند القدماء والمجددين، وكذلك أصول إستلاب المسرح، وأصول الإستلاب الفني في عصر النهضة. وكذلك هناك فصول تتحدث عن نقد الفن وتحققه في الفلسفة الحديثة، وعن نقد الفن وتحققه عند الطليعة، بالإضافة الى فصلين هامين يتحدث واحدهما عن الإستلاب الموسيقي، بينما يتحدث الآخر عن أصول الإستلاب الفني في التراث الإسلامي.
وفي خواتيم الكتاب، يصل التحقق الذات الإيماني إلى أقصى درجات الثورة والتوحيد الكامل بين الواقع والدلالة في قول إبن عربي:
قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي/ إذا لم يكن ديني إلى دينه داني.
وقد صار قلبي قابلا كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان.
وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن.
أدين بدين الحب أنّى توجّهت/ ركائبه، فالحب ديني وإيماني.
ويرى المؤلف في قول إبن عربي، ما يشهد على التوحيد الكوني بين جميع الوقائع وجميع الدلالات، ويظل بنظره نموذجا لتحقق الذات الإنسانية في الواقع الإيماني البعيد عن الإستلاب.
حقا كان كتاب «الإستلاب الفني» للدكتور إسماعيل الأمين، رسالة توعية على رسولية الفن ورسولية الفنان، يتحدث عن النشأة الفنية، عن تطورها، عن تكوينها المجتمعي، ثم يخلص للحديث عن إستلابها، والطرق التي إتبعت لذلك، من التوحش حتى القهر والقتل، كأن المؤلف كان يدعونا للوعي بالفن وبدوره، وبالإنقلاب عليه في آن.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية