بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الأول 2022 12:00ص القرميد الأحمر

حجم الخط
لا تزال هذه الصورة محفورة جيدا في ذاكرتي، ترمقني من بعيد، أول ما أطلّ من بعيد، وآخر ما ألتفت إليه، قبل الشروع في التنائي، والغياب في البعيد.
القرميد الأحمر الذي كنت أرمقه لعذوبته، لوقوعه في قلبي صدى للذكريات. هو اليوم آخر ما تبقّى في عيني. يختبئ كعش لسنونوة، في شق مهترئ، فوق شباك قديم، أطاله اليوم بناظري من بعيد، مثلما كنت أطال السنونوة بيدي وأنا صغير.
فرّ القرميد مني، نأى عني، المسافة ذاتها، التي قطعتها بين عمري وعمري. أواه، ما أجمل تلك المسافة! تكاد ترهقني حقا. تكاد تخطف قلبي. كيف يكون اليوم القرميد الأحمر عقدتي.. شيء بسيط كهذا، يهز أعماقي، كلما إستيقظت عليه، كلما إستيقظني. من وراء التلال كنت أرمقه، كان بوصلتي إلى خدي على سرير طفولتي. كان بوصلتي إلى السكينة والهدوء. كان بوصلتي إلى الأحمر في قلبي، يدفق كشلال من ذكريات، يجرفني، إلى عمق قعري، إلى مرآتي العميقة المقعرة، مثل عدسة المكبر، التي تبحث عن معنى، ضاع منها تحت ورق التوت الذي يغطيني، تحت ورق السنديان الذي يغطي رأسي، تحت ورق الجوز، الذي يغطي الحبة والثعبان ويدي.
القرميد الأحمر يجرف عيني، حين يصادفني في الطريق. أسلّم عليه سلام معرفة، لا سلام عابر سبيل. أعدّ اليوم العصافير التي كانت تفزع مني، واحدة واحدة.. وأخشى أن أكون قد نسيت الصغيرة التي هربت إلى داخلي. فاجأتها أصابعي النحيلة، مثل شموسة صغيرة تحت قرميدة بيت عتيق. كيف يكون للقرميدة الحمراء تذكرة دائمة إلى القلب.. تذكرة للرحيل معي، تحط حيث أحط، وتغرق كما أغرق في البعيد.
شجر القرميد الأحمر، يعرش على ثيابي. لماذا لا يكون شجر العريش الأحمر من القرميد؟ لماذا لا تكون يداي من قرميدتين نسيتهما في يدي، منذ الطفولة؟ لماذا كل هذا الحنين إلى سقف من القرميد؟.. أسمع في الليل خربشة الحمام، حف الجناح إلى الجناح، ونقر ريشة طارت في الطوان، للقرميدة الحمراء، حديث الطفولة. تهامسني حين أراها ترنو إليّ، تخطب ودي، فيعلق بها القلب فجأة.. يحمر وجهي من لونها.. فأنهمل شلال دم.
لا أعرف أن أختبئ عن القرميد الأحمر، حين يصادفني. أريد أن أهرب من أسره. فيأسرني، قبل أن أفكر في الهروب. ما هذه الطاقة السحرية. ما هذه الكوة السرية، بين قرميدتين مكسورتين، بين قرميدتين مجبورتين، بين وقع الأنين ووقع الحنين.
يهزني الشوق إلى القرميد الأحمر في الطريق، يعصف في قلبي، مثل عاصفة، كانت تهزني وأنا صغير.. مثل عاصفة صادفتني في الطريق، مثل عاصفة، أوقعت بي بين التلال، ذات يوم، وكل السفوح، أذيال ريح.
القرميدة الحمراء، لون كفي، حين كانت الشمس تصفعني، حين كانت الشمس تهذبني، حين كانت سيوف الشمس، تقصب هامة من القرميد الأحمر، تأوي إليها العصافير، تهرب من مطر الحقول، من مطر البساتين، من مطر القرى، نأت في الأقاصي، حملت إليها سقفا من القرميد، شلعته الريح، ناصبته حين كان يعدو في الطريق.
ذات القرميد الأحمر، تسكنني اليوم، وأنا على شفا غربة، وأنا على شفا هجرة، وأنا على شرفة، أنا على رأس تلة تنتحر كل يوم، بعد أن ودعتها.. فما كانت تطيق.
القرميد الأحمر دموعي اليومية، إن فرحت وإن بكيت. ليس في عيني، إلا جمر طوبة، ستخرج بعد وحدتي، قرميدة حمراء من عيني، لمنزلنا العتيق. كم يشتهي القلب، أن يخرج قرميده دفعة واحدة، ويعثر بي.. يلتقطني طفلا.. ويرميني في الطريق.

أستاذ في الجامعة اللبنانية