بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 شباط 2022 12:00ص صناعة الجهل في القرن الحادي والعشرين الاستراتيجيات والأهداف

حجم الخط
بوشرى إحساسا*



بات امتلاك المعرفة ومصادر المعلومات من الحقوق التي تعتبر أساسيّة وحقاً للجميع باعتباره قوة كبيرة تفوق قوة المال والعتاد، فقد كان هناك دوما ومنذ العصور القديمة من يحاول التحكم بها ونشرها وفق ما يخدم مصالحه وتوجهاته، ولهذا تأسّس ما يسمى بمجال «إدارة الفهم» أو «الادراك» perception management في الأوساط الأكاديمية والسياسية. وتعتبر وزارة الدفاع الأميركية أول من بدأ بنشر هذا المفهوم وعرّفته بأنه «نشر معلومات أو حذف معلومات بهدف التأثير على تفكير الجمهور، والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح»، ولان النشر والحذف يتطلبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلم النفس والسلوك والإدراك فقد قام «روبرت بورتكور» Robert Proctor وهو باحث مختص بتاريخ العلوم من جامعة ستانفورد بصياغة ما يعرف بعلم الجهل الانتولوجي، وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة، وهو نقيض الأول الذي هو إدارة الفهم ونتيجة لهُ، لكن في المحصّلة يظلّ الهدف الأساسي منهما واحداً، وهو تضليل الشعوب والتحكم فيها.

ما هو علم الجهل؟

يعدّ علم الجهل فرعاً من فروع العلوم السرية وهو علم يدرس غرس ثقافة الجهل أو الشك أو الوهم، ويجري من خلاله نشر بيانات خاطئة ومخطَئة أو غير كاملة، وتمتد جذور هذا المصطلح الى الاغريق الكلاسكيين فهو مصطلح مركب منحوت من كلمتين هما: الكلمة اليونانية اغنوسيس agnosis التي تعني عدم المعرفة، وكلمة انتولوجيontology وتعني علم الوجود ويقصد به دراسة الأفعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف الى نشر التضليل وخلط الأمور لكسب التأييد أو بيع منتج ما.

وقد تعامل المؤرخون مع مصطلح الجهل على أنه حالة ممتدة لا تقف عند حدّ، والذي من خلاله يتم امتصاص المعرفة والجهل، فهو حالة معقدة وفي نفس الوقت حالة مميّزة ومتغيّرة جغرافيا وسياسيا، والجهل يشكّل المؤشر الجليّ لسياسة المعرفة وقد قيل «نحن نريد سياسة الجهل لنمارس بها سياسة المعرفة».

وقد تطور مفهوم الجهل بتطور الحياة وبظهور التكنولوجيا وتقدّم المعرفة والبحث العلمي ليأخذ حيّزا أكبر في مختلف المجالات، فعام 2004 أعطت Londa Schiebinger تعريفا أكثر دقة بشأن الجهل عبر ورقة تطرقت فيها الى أسئلة تدور حول: كيف لنا أن نعرف؟ how we know في الوقت الذي تثار فيه جدلية تقول لماذا علينا أن نعرف why we do not know? فالجهل لا يعني غياب المعرفة ولكن هو أحد مخرجات صراع الحضارة السياسية.

بعدها سنة 2010 تم تقديم ورقة من طرف Mechael Betancourt ناقشت اللامادية للقيمة في الرأسمالية الرقمية، وقد توسّع بشأنها النقاش عبر كتاب The critique of digital capitalim، وتم التركيز فيه حول فقاعات الاسكان وفقاعات الاقتصاد بين عامي 1980 و2008، وهو صاحب مقولة «إن الاقتصاد جاهل، كونه (الاقتصاد الرأسمالي) يخلق الفقاعات الاقتصادية».

كما ظهرت كلمة أخرى مشتقة من جذور الكلمة الاغريقية وهي anyoilogy تحدد نوع الجهل وظروفه والتي تعني: علم دراسة الجهل أو تعبّر عن النظرية التي تعني بتلك الأشياء التي نجهلها الى جانب كونها تعبّر عن فرع من فروع الفلسفة التي درسها Ferriere James Friederick في القرن التاسع عشر.

تاريخ علم الجهل

أول من ابتكر مصطلح علم الجهل هو المؤرخ والأستاذ في جامعة ستانفورد «روبرت بروكتور» Robert n. Proctor بالتعاون مع خبير اللغويات «ايان بوال» عام 1995، والذي كان حصيلة عقود قضاها بروكتور في دراسة الآلية التي تنتهجها الشركات الكبرى في ترويج الجهل وتعزيزه لبيع منتجاتهم، فقد كانت تنفق المليارات بهدف التعتيم على حقائق الآثار الصحية للتدخين وعلاقته بالسرطان، مدفوعا بتسريب مذكرة سرية كتبتها شركة التبغ «براون اند ويليامسون» تصف فيها الأساليب التي تستعين بها شركات التبغ الكبرى في محاربة هيئات وجمعيات مكافحة التدخين، إذ ورد في احدى صفحاتها آلية ترويج السجائر للعامة من خلال اتباع منهجية زرع الشك بصفته أقوى سلاح في تفنيد الحقائق والتعتيم عليها واحداث البلبلة، ومن حينها انطلق لوبي التبغ في أميركا لرعاية أبحاث علمية مزيفة هدفها تحسين صورة التبغ اجتماعيا، ونشر الجهل حول مخاطره، ولم يقف التجهيل والتضليل عند فضيحة شركات التبغ بل ما يزال يمارس منهجيا في تحريف المعلومات بما يخدم المصالح الكبيرة لحكومات أو شركات أو جهات سياسية أو غيرها ممن لهم أهداف لتوسيع نفوذهم والهيمنة اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا أو عسكريا.

وكما ان لنشر العلم أجواؤه ومناخه ووسائله، كذلك يحتاج نشر الجهل أيضا لنفس الأمر وأفضل وسيلة لذلك هو خلق مناخ يتم فيه التشجيع والحث على النقاش أو حتى الصراع على شرط أن يكون متكافئا ومتوازنا بين فكرتين أو جبهتين، وأن لا يسمح لأحدهما بالتفوّق والغلبة على الآخر، بل الإبقاء على حالة التكافؤ بين وجهتي النظر، لتكون النتيجة في الغالب هي غياب النتيجة، وهذا هو المطلوب كما أكد بروكتور.

وعليه فصناعة الجهل أو علم الجهل أو إدارة الفهم أو الإدراك كلها مسمّيات لعلوم تقنية خلقت كلها بهدف واحد مع اختلاف وسائلها ومجالاتها وتاريخ ظهورها... لكن يظل أهم جزء فيها هو إنتاج معلومات مزيفة ونشرها على انها حقائق، ومحو حقائق ثابتة معتبرا انها مزيفة، وتعتبر من أهم الأدوات التي يستخدمها الحاكم المستبد والسلطات المهيمنة من أجل تطبيق مبدأ التجهيل وأدراه الأفهام الإنسانية، كمنهج لتحويل الشعوب الى مجرد قطيع خانع وتابع وضائع.

أدوات نشر الجهل

< بعض وسائل الإعلام:

 وسبقت الإشارة إليه فهو أداة خطيرة من خلالها يتم صناعة كيانات إعلامية موجّهة، تتبنّى لغة خطاب واحد ومتكرر، لترسيخ الفكرة المراد نشرها في الأذهان فهو بمثابة مشروع جهات ذات نفوذ يعتمد على استخدام رموز مهمة بالمجتمع للاستفادة من شعبيتهم في ذلك.

< نخبة سياسية مصطنعة:

حيت يتم تكوين كيانات سياسية تابعة ولها ولاء تام، تقوم بالتأصيل السياسي والتشريعي لما تريده تلك الجهات ذات النفوذ القوي لتكون الذراع السياسي في معركتها ضد العدو.

< مستغلو الخطاب الديني:

حيث يتم استخدام مجموعة من رجال الدين الذين تتم صناعتهم واستقطابهم، هدفهم الأساسي تطويع بعض النصوص الدينية وجعلها حجة ودليل لتبرير مواقف معينة بغرض التأثير على العامة. وبهذا فعلم الجهل يستخدم في عالم التجارة والتسويق والدعاية الى غيرها من المجالات الحياتية المختلفة للتأثير والتحكم بتفكير الجمهور من أجل تسويق توجهات سياسية معينة والترويج لها ليتم إقناع الشعوب بها، حيث يعتمد ذوو النفوذ في ذلك على ثلاثة أمور مهمة وهي:

1. بث الخوف لدى الآخرين من عدو مفترض.

2. ترتيب الأولويات وفقا لمعركة وهمية.

3. وضع معايير مضللة لحالة النجاح المطلوبة.

ماذا بعد؟

إن الجهل في عالمنا الرقمي ليس مجرد انعدام المعرفة بالأشياء، وإنما هو معرفة كيفية تصنيع الجهل وتسخيره لأهداف تجارية أو مالية أو سياسية أو عسكرية، فيتم توزيعه عن طريق أدوات ترتبط بالعلاقات العامة والتي تعتبر المجال الأساسي والأصلي لصناعة الجهل، فهذا المجال هو الابن الأصيل للحكومة الأميركية على حد تعبير تشومسكي فعن طريق لجانه تم تضليل الرأي العام الأميركي والزج به في الحرب العالمية سابقا وغزو العراق لاحقا، بما كان يعرف بإسم لجنة الإعلام الأمني والذي يسير عل خطط ممنهجة تستند على أساسيات علم الجهل من خلال القنوات الثلاث أو ما أشرنا إليه سابقا باسم أدوات علم الجهل.

ما نحن بصدده كارثة إنسانية بل اعتبرها جريمة في حق الإنسان فعندما نستغل تفكيره على اعتباره وعاء فكري معرفي يستقبل معلومات ويلغي معلومات من خلال قناعاته ومبادئه وايديولوجياته وحريته، ونقوم بإلغاء كل هذه البنية المعرفية الثقافية للإنسان بتحويل العلم وكل ما يتصل بالمعلومات والبيانات بواقعنا الورقي كان أو الرقمي الى سلاح وأداة تلغي الإنسانية داخل الشخص، تقتل ملكة العقل الحر في التعبير بالرفض أو القبول عن مواقفه في الحياة، تفرغ كيانه من الابداع والابتكار بتحويله الى مجرد تابع وخاضع لمشروع خطير لا يهمه إلا اعطاء الأولوية لمصالحه ولو على حساب فئة أخرى، للقضاء على آلية النقد الذاتي البنّاء الذي يصنع الإنسان والأجيال، ومثل ما تدار أفهام البشر على هذه الأرض الكبيرة بيد مجموعة من الأنانيين العديمي الإنسانية وهوسهم في تضليل وتجهيل الآخرين عن الحقيقة وجعلهم مجرد قطيع تابع لا حول له ولا قوة. لا بد لنا من النهوض مما نحن فيه وفتح بصيرتنا لنرى الخطر الذي يهدّد أجيالنا المستقبلية مما يتعلق بالغزو الثقافي وكيف بدأ، وما علاقته بالحروب الناعمة التي حلّت محل الحروب العسكرية.






* أديبة وكاتبة صحفية مغربية