بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 كانون الثاني 2024 12:00ص عبقرية جحا

حجم الخط
عندما يشرع أيّ كاتب في البحث عن الجذور التاريخية لشخصية جحا، لا بد أن يصادف عدّة إشكالات حولها، نظراً لشهرة هذه الشخصية وشيوعها بين الناس، حتى تحوّلت إلى رمز شعبي عُرف في شتّى الميادين السياسية والاجتماعية، فهو من ‎جهة أحمق ومن جهة أخرى فطن وقاضٍ وحاكم ورئيس شرطة وحكيم، من هنا نرى استمرارية جحا ونموّه في الواقع، أما السؤال عن سبب هذه الديمومة فقد يعود الى النظم السياسية وخوف الشعب من المواجهة مع الحاكم فكان يلجأ إلى نوادره ويُلبسها رداء (الجحوية).. والأثر الجحوي لم يبقَ منحصراً ضمن الواقع العربي، لأننا نجد جحا آخر لدى الشعوب التي تأثرت بالحضارة العربية، وجحا التركي خير دليل على ذلك، ولعلّ أقدم الكتب التي حدثتنا عن جحا، هو قاموس «الصحاح» للجوهري الذي أكّد وجوده، وقال إن أسمه «أبو الغصن، وهو من فزارة القبيلة العربية المعروفة». والقراءة الهادئة لنوادر جحا تعطينا فكرة صحيحة عنه، فهو ليس بالأحمق، إنما يعتبر من أذكى الرجال وأفطنهم، وهو اتخذ من الغباء والتحامق أسلوباً له في الحياة، وكان ذا حسّ فكاهي ومؤمنا بفلسفة الضحك ودوره في مواجهة مشكلات الإنسان، وهو قادر على قلب المأساة الى ملهاة في قمة من قمم السخرية والإستهزاء، كما حفظ التاريخ لنا بعض المواقف التي استطاع جحا أن يجتازها بسهولة، وهو يتوسل الحكاية المرحة في التعبير، راصداً طموح الناس وآمالهم ورغباتهم في التغيير السياسي والاجتماعي، من هنا نرى أهمية النادرة الجحوية التي تصوّر المجتمع في عاداته وتقاليده والأزمات التي عايشها في حقبة معينة من تاريخه، حيث يلعب دور الرسّام «الكاريكاتوري» في تضخيم الصور الاجتماعية بشكل موجز دون أن يتخلّى إطلاقاً عن عنصر الجديّة، والهدف الأساسي له أن يوحي بحكمٍ ما، يستخلصه من التجربة الإنسانية، لتأكيد مقولة إجتماعية أو أخلاقية أو سياسية.. ولجحا مواقف ونوادر تُبعد عنه الحمق الذي تحدث عنه بعض الأقدمين والذين كانت غايتهم من ذلك التفريق بينه وبين جحا الراوية، ولعلّنا نجد أخيراً في الكثير من نوادره التي تنمّ عن ذكاء وثقافة واسعة، تساعدنا على فهم هذه الشخصية التي تشغل حيّزاً لا بأس به في تراثنا العربي.