بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الأول 2022 12:00ص «يوم الشمس» لـ هالة كوثراني كتاب يمثّل صاحبه

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
من الصعب أن تقرأ كتابا يمثل صاحبه بنسبة كبيرة، كتابا يشمل نسبة كبيرة من الأحداث، من المواقف، من الأيام، من السنوات، من المعارك، من المشاهد. يمثل نسبة كبيرة من هذه اللوحات المشهدية، التي تخرج من الذاكرة، ومن عيان المعاينة والمعاناة، التي خوضت فيها، الكاتبة والإعلامية هالة كوثراني، بنسبة كبيرة في روايتها: «يوم الشمس. دار نوفل. هاشيت - إنطوان. بيروت: 238 ص. تقريبا».
«الشقة هادئة، ولا أثر لأبي. إنغلق قلبي مجددا وأنا أسلم نفسي للألوان القاتمة. كل شيء في الشقة بني، الأثاث والسجاد والستائر التي تنبعث منها رائحة المطهرات ومساحيق التنظيف. هنا تختفي الشمس.. تعتزل وتستسلم».
مراحل من حياة الكاتبة، بلسان بطلتها، التي شهدتها وشهدت عليها في مختلف وسائل الإعلام. وكذلك في تضاعيف الحياة اليومية المُرّة، التي كانت تقطعها، منذ ثمانينيات القرن الماضي، حتى الربع الأول من القرن الحالي.
- «ما الذي تغيّر الآن؟ ما الذي تريده مني، ولماذا الآن؟
- أن تسامحيني، أنا لم آخذ أمك منك» (ص21).
تروي الكاتبة أوجاعها في جميع المواضيع الرئيسية التي تناولتها في كتابها «يوم الشمس»، من بيروت إلى سائر القرى اللبنانية، ومن لبنان إلى دول العالم أجمع، إلى حروب الشوارع، وإلى حرية التعبير، واختيار الموقف، والطبيعة والمناخ والأمراض والاقتصاد. كأن الكتاب سيرة ذاتية لها.. سيرة شخصية، وإن كانت بالغة الخصوصية. كانت الكاتبة تستقيها من مصادرها، من الينابيع، ولا تنسى أن تقدم لنا لوحات مرسومة، تدخل من خلالها في حوارات مباشرة، مع الأم والأب والعمة والصديقات والزميلات، لذا كانت سيرة عنها، ومنها في آن.
«كان بوسعها أن تخطفني من البيت البيروتي العريق، لكنها مالت إلى الاختيارات الأخرى. ولم أكن في صدارة أولوياتها. هل هذه هي الحرية التي حلمت بها؟ أن تستسلم لقوة العائلة وتخاف منها فتتركني؟ ألا أستحق التضحية؟ هل كنت سأترك أبنة أنجبتها؟» (ص33).
يشي كتاب «يوم الشمس»، بعمل الكاتبة الدؤوب، على تدوين مجموعة أغراض، قيمة وخفيفة الظل، تبتدئها في حي بيروتي، من شارع الحمرا، ثم تسافر بها إلى جميع الجهات. تأخذ بجمع الصور، حتى يستحيل كتابها إلى أرشيف، لكثرة ما يحتوي من مقابلات أجرتها ودوّنتها، ولكثرة ما فيه من حوارات وشهادات، شكّلت قيمة مضافة للكتاب. ذلك أن الكاتبة أحسنت توليف النثريات اليومية وكذلك التفاصيل الدقيقة، ودبّجتها بكل رقيّ ومحبة ولطافة، مهما كانت شديدة الوقع عليها.. ومهما كانت مُرّة وقاسية.
«شعرت به يقترب مني. لم أتحرك. كنت أحلم بالقبلة الأولى. حلمت بشفتين طريتين تمتصان وحدتي. وقبل أن أغمض عيني، سمعت أبي يصرخ:
- يا أبن الكلب، ماذا تفعل هنا؟» ( ص113).
مواضيع كثيرة ومتنوعة جعلت «يوم الشمس»، كتابا غنيا، وجعلته بذلك يتمتع بجاذبية.
«كنت قد طويت صفحة البحث عن معنى وجودي، وعما يتجاوز جمال أشكال الحروف إلى ما هو باطني وروحاني» (ص116).
«مالك أعادني إلى رشدي أيام الجامعة حين تجاوزت القوانين وتحررت بفوضى الحرب من سطوة أبي ووعظه المستمر» (ص174).
هالة كوثراني اختطت لنفسها طريقا وعرا غير أنها استطاعت أن تعبّده للقرّاء، بالروايات الشيّقة. وهي على الرغم من تخويضها في موضوعات مختلفة، استطاعت بأسلوبها في الكتابة، أن تأتي بالمتجانس. تتفادى أن تقحم الكتاب، بأي شيء يسيء إلى خفة الظل المطلوبة في كتب السير. فالكتاب يشبه مؤلفه، فهو خفيف الظل وجريء وشيّق ومتنوّع. إذ «يوم الشمس»، غيره كتاب «باب الشمس»، وكتاب «تحت الشمس»، لأنه يسرد الأوجاع، ولكنه يرحم الناس.. وليس «وصفة للقتل».
«عندما بدأت رسم الحروف أردت أن أسأل أمي: أليست الصورة أجمل من المعنى؟ هل صورة الحروف معنى أيضا؟. رسومها التي تجمع بين الصورة والمعنى. هي رسالتها إليّ. رسالة تبلور روحها» (ص143).
تتسم اللغة في الرواية، بالتدفق والإنسيابة، تشبه الماء في قدرته على تحريك الأحداث بقوة. وهي تتكئ أيضا على قاموس لغوي، تظهر من خلاله الإستعانة بالمحليات، من أجل التأكيد على المصداقية.
- «هذا لك. طلب مني أن أسلّمه إليك عندما لا يعود موجودا بيننا.
لا أعرف لماذا شعرت بالحرج والضيق. فإبتسمت وأنا أضع يدي على المغلف» (ص127).
وما من شك، أن حياة المؤلفة، كما تظهر من خلال سردياتها، على ألسنة شخوص روايتها، «يوم الشمس»، كانت عبارة عن كوابيس لا نهاية لها. اللهم ما عدا اللحظات النادرة، التي تتوصل فيها إلى كتابة «سرديات مرضية» جديدة. لأن المؤلفة، كانت حقا «مريضة» بما تقص وتروي. ولذلك أتت روايتها بالإجمال، مريضة به. تعيش المخاضات العسيرة يوميا تحت الشمس، حتى تقع لها «رقعة من شمس المجنون»، كما يقول أدونيس.
«جئت لأجل زينب. جئت لأضمّها كما ضمتني وأنا أبكي موت أم لم أعرفها. بكت زينب، حزنا على أخيها. وأنا بعد مقتل أمي بكيت قهرا... لماذا أشعر بأن بكاء القهر أشد إيلاما؟» (ص105).
فالكتابة في سرد الذات، تحرق أنفاسها حرقا، خصوصا حين تعطيها كلها، لكي تعطيها الكتابة بعضها. ولا يكون ذلك إلا على حطام من المعاناة والإحتراق، المعاناة التي تنزل على رأسها، توجز كل مصائب الأرض، مصحوبة بالنكبات والفواجع والخيبات. فتظهر الحياة كلها، تحت عينيها، وكأنها لا تساوي أي شيء. ختمت تقول:
«علقت لوحتي أمي، وأعدت ما بقي من أوراق أبي وكتبه إلى رفوف مكتبتي. أقفلت باب بيتي وغادرت إلى المطار. تغيّرت الدنيا، ولن أشعر في اليابان بأنني على كوكب آخر. لكنني هناك سأكون بعيدة مني وقريبة منها» (ص236).

أستاذ في الجامعة اللبنانية