بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

12 حزيران 2020 12:00ص غداً ربما!

حجم الخط
قليلٌ من الحبر على الطاولة، وأبجديةٌ لم يبقَ لي منها سوى بضعِ كلماتٍ على عجل. فليس لكلماتي مدادٌ كي لا تنفدَ، وليس لعمري عمرٌ كي لا ينكَسِر. قليلٌ من الحبر ربما لأكتبَ اسمَ الحقيقة على جُدران اللّيل أو أسيّجَ بقوْسينِ الدمَ من أنْ يسيل. قلمٌ واحد يكفي لرسم خيْطِ الفجر أو تكحيل دمعٍ بالأمل.

 قلمٌ واحد ضدّ الرصاص. فلا شيء يغتالُ القلمَ إلا القلم، ولا شيء يمحو الحبرَ إلا الحبر. ففي مهبّ الحبر قد يضيع تاريخٌ أو يسقط وطنٌ جملةً جملة . كثيرٌ هذا القليلُ إذا ما زنَت به الأقلامُ، وقليلٌ كلما عزَّتْ على صخرةٍ وردَتُهُ. قليلٌ هذا الحِبرُ بين يديّ، وفي الحِكْمَة موجَزٌ كرائحة القمر لا يخفىَ في المساء ياسَمِينُه. 

وفي البال حِبرُ ذكرياتٍ على سطور الأيام التي مرّت وما مرّت؛ كنافذةٍ مهجورةٍ على حائطٍ للموسيقى يُغنّي للريحِ أحزانَه. الناسُ مفرداتٌ على حبالِ الحبر؛ بعضُهم كعصافيرَ في أُفقِ بندقيّةٍ طائشة، وآخرون كغيمٍ قصَّ عندَ بابِ السماءِ جناحَيْه وبكىَ. كانَ يكفيني كلمةٌ لأختصرَ النّهرَ بين ضفّتيْن أو الحبرَ بين صفحتين؛ وأقولَ من القليلِ قليلَهُ.

 فغداً ربما أكّفنُ السطورَ ببياضِها العاجيّ وأدلُقُ الحبرَ اليسيرَ فوق جسَدِ الفراغ. وغداً ربما ألمْلمُ علاماتِ الوقْفِ من تحت أقدامِ الكلمات المتحاربة وأنسحبُ سريعاً كحمامةٍ اقتاتَتْ من ثغر السّيوف حرفاً ناجياً أو أَنْزِلُ كضبابٍ أزرقَ درَجَ العتْمة السّحيقة. تتشمّسُ الأحلامُ على شرفاتِ اليأس وتنفثُ دخانَ الانتظار الطويل. 

والبحرُ يودّع أمواجَه بقناديل الملْحِ الشاحبة ويقطعُ مع الشاطئ حبلَ التراب الأخير. طيور الوقت أصابَها الإعياءُ، والنهارُ حطّابٌ يَسبي من قلوبنا الشجرَ ويزرعُ في عيوننا فؤوساً جائعة. فغداً ربما ينبتُ الدمُ المجّفف حول أعناقنا، ويُجرُّ حبرُنا النازفُ إلى أوراق الخنادق.

 يوجِعني الوقتُ كلما غرَز في لحْمِ أيامنا الجّاف أسنانَه. والجرحُ مأوى الفراشاتِ القتيلة. وأرزُنا انتصابُ الألمِ العميق في رمادِنا الأخضر. قليلٌ من الحبر بعدْ لأهربَ من الحيّ، وأعبرَ سياجَ المعنى الشائك!    


أخبار ذات صلة