بيروت - لبنان

اخر الأخبار

صحافة أجنبية

25 كانون الثاني 2024 12:01ص غزة تُعرّي الخريطة الإدراكية الإيرانية

حجم الخط
مما لا شك فيه أن من اطّلع على مقالي السابق بجريدة «اللواء» (غزة تُعرّي الخريطة الإدراكية الصهيونية والعربية)، سيلمس من خلال عنوانه وكأنني تحايلت على القارئ بشكل أو بآخر لألفت انتباهه وأثير فضوله فعنوان المقال أعمق بكثير من مضمونه، و العاشقون لفن المشي وحدهم سيدركون ان هناك حلقات مفقودة فيه وان تم التلميح لها لكن برمزية عابرة، وحتى أزيل هذا اللبس بيني وبين القارئ أكتب تتمة لما سبق، فقد تعمّدت ولأسباب أن أرجئ تناول جميع الأطراف خاصة المباشرة في الحدث (طوفان الاقصى) لجولة أخرى: أولا لان الموضوع فعلا شبيه بحرب نفسية إنسانية داخلية مونولوجية قبل أن تكون حربا خارجية على أرض الواقع وعلى ساحة الشرق الأوسط  بالذات، وثانيا لأن العلاقة بين الأطراف في عملية طوفان الأقصى معقّدة ومتشابكة تحتاج منا تأمّلا عميقا لسبر أغوارها، كما ان مقالا واحد لن يكون كافيا لوضوح الرؤية.
ان السياسة في نظري مجموعة من الأقنعة التي قد نحسن اسقاطها بقراءاتنا وقوة الرؤية هي الأداة لفعل ذلك، ولكن لا بد من وجود الجرأة لتحقيق مرادنا، واليوم أودّ وبشدّة أن أصاب بهذه الجرأة لنحاول اسقاط أقنعة أخرى لا لشيء إلّا لمشاركة القارئ قراءة امرأة تعشق المشي بين سطور التاريخ وحدائق الفكر وكذا لتنويره وهو ما أعتبره جهادا لإزاحة غشاوة الجهل من على بصائرنا وقد أخفق وقد لا، و لكن يضل المجتهد له أجران إذا أصاب وأجر واحد إذا أخطأ.
لا أشك ان الكثيرين منا وقعوا في الحيرة منذ عملية طوفان الأقصى التي أعتبرها عملية أزاحت المساحيق ولا تزال من على وجوه شخصيات قد اعتبرناها طويلا ذات مبادئ وقيم وإذا بنا نتفاجأ بها بهيئة مسوخ مخيفة، ولم يقتصر الأمر فقط على شخصيات بل تعدّاها الى مؤسسات ومنظمات ونظم مختلفة سياسية واقتصادية وإعلامية... عدا ما يخص الصهاينة فوجوههم مفضوحة وتعكسها خريطتهم الإدراكية الثابتة والواضحة جدا وقد تناولناها في المقال الأول الشيء الذي يتفقون فيه مع الإيرانيين بصفة كلية في استراتيجيتهم الجيوسياسية ويتقاربون ويصطدمون بنفس الوقت فيه معهم ايديولوجيا.
فليسمح لي القارئ أن نأخذ معا زاوية محايدة عن كل الأطراف حتى لا نتهم بالطائفية والفتنة، فهدفنا فقط فهم مسار الخريطة الادراكية للمتنافسين على المنطقة وحتى نحاول أن نتوصل في النهاية الى ملامح مستقبلية لهذه الأخيرة تكون قادرة على احتواء الصدمات والحد من التصعيد أساسها الحوار في سبيل تجاوز التعقيدات في المنطقة لا لشيء إلّا لحماية المصالح المشتركة بين الدول المعنية في الوقت الذي نرى فيه ولادة عالمية لخريطة جديدة.
فنحن عندما نجوب بنظرنا منطقة الشرق الأوسط لا يسعنا إلّا أن نرى التوغل الصهيوني والإيراني جليّ وواضح ولا ننسى التركي مع دور أقل من السابقين على هذه البقعة من الكرة الأرضية، وهم في منافسة شرسة في من يتقلد منصب شرطي المرور بالمنطقة أمام غياب شبه تام للدور العربي، طبعا مع وجود الدول الاستعمارية المباركة والحامية لهم فالصهاينة سندها الأميركان ودول أوروبا، وإيران تتكأ على دعم روسيا والصين، ان لم نقل أن هناك تحالفات من تحت الطاولة حسب ما تقتضيه الحالة الجيوسياسية والحتميات التي تمكن طرف عن دونه من السيطرة على توازنات القوة في المنطقة، بمعنى أن الخريطة الإدراكية لهما شبيهة جدا في استراتيجيتهما المعتمدة في سياسة التوسّع والتمدّد والتهجير للسكان الأصليين واستبدالهم بآخرين، فما حصل في العراق وسوريا واليمن ويحصل الآن بلبنان ما هو إلّا مشروع قومي إيراني عقائدي سياسي، يتمثل بمخطط الخمسينية الذي أعتبره المفتاح لفهم الخريطة الإدراكية الإيرانية التي لا تختلف كثيرا عن الصهيونية في خطرها على الأمة العربية.
قد يرى البعض أن الثورة الإيرانية نسفت كل ما أنتجته الملكية إبان حكم الشاه في إيران والحقيقة انها امتداد لما كان قبلا ولكن بهيمنة أكبر فالنظام الامبراطوري قبل 1979 سعى للسيطرة على الخليج العربي ونظام ولاية الفقيه يطمح لابتلاع العالم الإسلامي، لكن  بخريطة إدراكية فارسية إسلامية لا علمانية بهلوية.
كلنا يعلم قصة الكيان الصهيوني الذي تم استفراغه من قبل الغرب على أراضينا هم وأميركا إذ عملتا على دعمه وتطويره حتى باتت الصهيونية وبكل قيمها الشاذة ايديولوجية عابرة الى حدودنا، وآلية في يدهما لمحاربتنا والتضييق علينا مع تحريكها كلما رغبتا بتمرير أجندة من أجنداتهما الخبيثة، ووضحنا على أي أساس قامت... وهم بالذات من صنع الإسلام المتطرف ودعموه ولا أشك أن يكون لبعض الدول العربية دور في ذلك ولو بالصمت وعدم التدخل وهي ترى دولة جارة تدمر تحت مسمّى (جماعات إرهابية) كورقة لمزيد من الاحتلال والتدخّل في قراراتنا. وكذلك هم بالذات من صنع الخميني والثورة الإيرانية التي كانت الفاصل بين الملكية والجمهورية بين عصر الشاه شرطي الخليج كما كان يطلق عليه الذي لم يعد يلبّي طموحات أميركا والكيان المحتل وبالذات هذا الأخير الذي تعاونا معا في السابق لمواجهة الاتحاد السوفييتي والدول العربية المتحالفة معه خاصة مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ولكن بسرية تامة وظل التواصل معه عن طريق السافاك جهاز المخابرات السرية الذي تأسس بمساعدة المخابرات المركزية (سي اي ايه) والموساد الإسرائيلي عام 1957 والتنسيق معه عسكريا وأمنيا... وحتى زيارة ديفيد بن غوريون أول رئيس للكيان الإسرائيلي ظلت في الخفاء كما هي باقي زيارات الرؤساء الآخرين، مع استمرار الضغوطات على الشاه بالاعتراف علنا به خاصة من جولدا مائير إلّا أنه لم يغيّر رأيه مع إمكانية عمل الوفد الإسرائيلي في بلاده مثل أي وفد دبلوماسي لأي دولة بالعالم بعدم وضع علم الكيان في المناسبات الرسمية.
لم يكن التعاون بينهما خلال عقدي الخمسينيات والستينيات اتجاه العرب عسكريا فقط بقدر ما كان براجماتيا نفعيا (المصالح المشتركة الجيوستراتيجية) واحتياج كل منها للآخر لمواجهة تهديد العرب. فالعدائية للعرب هي احدى الركائز الأيديولوجية المشتركة في الخريطة الادراكية الإيرانية العلمانية كانت أو الإسلامية وكذا الصهيونية درجتها تزداد وتقلّ حسب ضعف وقوة كل واحدة منهما، وهذا سيتضح لنا بعد انتصار إسرائيل في حرب 1967 حيث تضاعفت قوة الشاه في الخليج العربي بانسحاب اسطول بريطانيا ونمو الاقتصاد الإيراني في الوقت الذي توسعت فيه إسرائيل واحتلت أراضي تابعة للأرض المقدسة وكذا العربية. وطبيعي أن يصطدم الجيوسياسي بالايديولوجي في التصور الخاص للخريطتين لتبخر العنصر الأساسي الذي كان يحافظ على توازن علاقتهما ولو مؤقتا وهو العنصر العربي، فأصيبت إيران بهاجس إمكانية انقلاب الكيان الغاصب عليها والاستيلاء على أراضيها، ليقرر الشاه تجميد كافة المشروعات المشتركة بينهما كما سيؤيد قرار مجلس الأمن التابع للأمم رقم (242) الصادر (22/11/1967) والذي ينص على انسحاب قوات الكيان من الأراضي المحتلة... كما دعا الشاه أميركا لأخذ موقف حيادي وهو ما عزز العلاقات بينه والعرب خاصة مع السادات بوجود حليف غربي واحد (أميركا) وأصبحت علاقته بإسرائيل يشوبها النفور حيث رفض حضور احتفال مرور 22 عاما على تأسيس الكيان الإسرائيلي وكذلك عدم دعوة رئيس هذا الأخير بمرور 2500 عام على نشأة الامبراطورية الفارسية في أكتوبر سنة 1971.
وهنا يتضح لنا كيف أن العلاقات في منطقة الشرق الأوسط جد معقّدة فالخريطة الإدراكية لا يمكنها أن تخرج عن سياق الأيديولوجي والجيوسياسي. فاحتياج إيران للكيان آنذاك لم يعد كالسابق ومفهوم العروبة ما عاد كابوسا يقلق أحلام إيران على عكس إسرائيل تماما، حيث غيّر النظام المصري خطابه الايديولوجي نحو الإيرانيين وعرفت إيران انتعاشا في عائدات النفط ، وقد ساندت مصر في حربها على الكيان المحتل في أكتوبر 1973 (حرب ستة أيام)، التي كانت ملحمة سطّرها التاريخ وتم استرداد قناة السويس وجزء من الجولان، ما زاد من تعقيد العلاقات بين العرب وإسرائيل التي كان لا بد أن تعيد حساباتها مع أميركا خاصة بعد زيارة جولدا مائير لطهران أول مرة حيث قالت: (بعد تجديد العلاقات مع مصر لم يعد الشاه ما كان عليه)  ليبدأ سيناريو الإطاحة بالشاه واستبداله بالخميني.
وهنا انزلقت الخريطة الادراكية الإيرانية في شراك الإسلام المتطرف حيث خدعت الكثير من الجماعات الإسلامية بعزفها على الوتر الحسّاس للعالم العربي وهو تحرير القدس، والذي كان الستار الحقيقي وراء صراعها مع الكيان الغاصب (الهيمنة على الشرق الأوسط)، إذ بعد الذكرى السنوية الأولى للثورة خلعت حلّتها الثورية والدينية لتلبس حلّة عسكرية وتتمثل في حربها الضروس مع العراق، مهد التشيّع الأول الذي يحوي مقدسات لهم ومراقد لأئمتهم، وكذلك البوابة الشرقية للوطن العربي والمسلمين الذين لن ينسوا أن أرض العراق عليه انكسرت شوكة الفرس والمجوس، والذي هم أنفسهم غير قادرين على نسيانه، فهو امتداد قوي لمشروعهم المذهبي الصفوي قديما وحديثا، وقد أدّت هذه الحرب الى افقادها شعبيتها لأسباب كثيرة مما سيضطرها لاعادة النظر في علاقاتها الصهيو-أميركية وكذا الدول المجاورة لها.
انتهت الحرب عام 1988 فاستكمل أحفاد الخميني مساره بشكل مختلف وناعم كليا ففي عهد خاتمي بالذات صيغت الخطة الخمسينية وعرضت باسم: (الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران) نشرتها رابطة أهل السنّة في إيران (مكتب لندن)، وهي عبارة عن رسالة من مجلس شورى الثورة الثقافية الإيرانية الى المحافظين في ولاية إيران، حيث قام الدكتور عبد الرحمان البلوشي بترجمتها من الفارسية الى العربية وتفاصيلها نشرتها مجلة البيان الاماراتية من عدد 87 تحت عنوان: (الخطة السرية للايات في ضوء الواقع الجديد) وهدفها الأساسي جعلها أيديولوجية عابرة بنظري كما الصهيونية بتصدير المشروع الإيراني الصفوي تحت أجندات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتبشيرية بدلا من الخيار العسكري، ونشر الفكر الخميني الفارسي الذي يرتكز على أساس طائفي رافضي في الشرق الأوسط عامة والخليج العربي خاصة، وصولا الى شمال افريقيا بزرع خلاياه النائمة هناك وطموحهم طبعا لا نهاية له حتى يصلون الى العالم بأسره.
والمثير في الأمر أن هذه الخطة شبيهة ببروتوكولات حكماء صهيون وتلك القصص الغريبة بأسفار التوراة المحرّفة والعالقة بالعقل الجمعي للكيان الصهيوني اليهودي إذ نجد تشوّهات هيكلية تنخر أوصال الفكر عندهم، فالعدائية للآخر واضحة فيها وكذا النظرة الدونية إزاء القوميات غير الفارسية عدا هاجس المؤامرة في التعامل مع العالم وحبهم لإراقة الدماء لجنس من البشر تحديدا (العرب) في سبيل تحقيق مشروعهم... ولا شك أن الكثيرين سيعتبرون البروتوكولات الإيرانية كما الصهيونية مجرد ادّعاءات... لكن ما نعيشه يقول غير ذلك، ولا أخفي القارئ فكم أتمنى مستقبلا أن نتفاجأ ببروتوكولات عربية من شخص مجهول يرسم لنا مشروعا قوميا عربيا إسلاميا إنسانيا سليما وليس شاذا نحذو حذوه مثل الكيان المحتل وإيران في التفاني لمشروعهم بدل سيمفونية الشخير العام التي ما نزال ننام على أنغامها.
ولا بأس بذكر بعض الملامح العامة لهذه الخطة المقرر تنفيذها خلال 50 عاما مقسّمة على خمس مراحل، والتي ينطق بها الواقع وان البعض يرى مجملها مجرد سطور كتبت:
التأكيد على أن تصدير الثورة الإيرانية يأتي على رأس أولويات السياسة الخارجية الإيرانية.
الخطة لها صيغة قومية فارسية وثقافية واجتماعية وسياسية ودينية وتاريخية واقتصادية، تستهدف أهل السنّة داخل إيران وخارجها في منطقة الشرق الأوسط عامة والخليج العربي خاصة.
تعتمد الخطة على التقارب مع الدول الأخرى، وتجنيد ممثلين في هذه الدول وإيفاء عملاء من إيران الى هذه الدول.
العمل على تغيير التركيبة السكانية لهذه الدول عن طريق أمرين: الأول تهجير قطاعات سكانية من هذه الدول، والثاني تشجيع الهجرة الإيرانية إليها.
إنشاء مراكز ثقافية ومشروعات اقتصادية وحسينيات وجمعيات خيرية ومؤسسات طبية وخدمية داخل هذه الدول، بغرض زيادة النفوذ الإيراني فيها.
تقسيم مجال التطبيق الخارجي لتلك الخطة بحسب سهولة انتشار المذهب الشيعي، حيث أن هناك دولا يسهل فيها انتشاره (تركيا، العراق، أفغانستان، باكستان، البحرين) ودول يصعب انتشار المذهب الشيعي فيها (الأردن، مصر، دول الخليج عدا البحرين) حسب مضمون الخطة.
وقد جاءت هذه الخطة نتيجة المقاطعة الغربية لإيران وكثرة العقوبات عليها، والتي فهمت بعد سنوات أنها ضد مصلحتها، واقتنعت أن الخطاب السياسي والعدائي في تصدير الثورة لم يعد مجديا في تحقيق مصالحها فأخذت مسارا أقلّ تطرفا في خطاباتها السياسية قائما على الحوار والتهدئة، خاصة بعد توليها رئاسة (المؤتمر الإسلامي) طبعا مع وجود مزيد من الألغام بهذا المسار الجديد لخريطتهم الإدراكية.
مع كل خطوة أخطوها لأمارس هوايتي المفضّلة والمتعبة في نفس الوقت بتعرية الأشياء والمفاهيم والوجوه المختلفة لنعيد لها صياغتها الحقيقية وسياقها الصحيح أتأكد ألف مرة الى أي حد نحن تائهون وسط كل هذه الفوضى في أوطاننا، إذ نحن غارقون حتى النخاع بتفاهات سياسية وإعلامية وعقائدية مزيفة، ونعشق إثارة النعرات والفتن بيننا عن صناعة مستقبل عربي ومسلم موحّد بتبنّي استراتيجية تنبثق من بيئتنا وترتبط بمصالحنا بمختلف مجالاتها وتعبّر عن معاناة المواطن من داخله وفي المقابل خصومنا المتربصة بنا مستمرة وبتفانٍ في رسم خططها ورؤاها واحدة تلو الأخرى والدليل على ذلك ما يجري الآن على أرض الواقع.
إذا جلسنا نعد كم مسرحية مثّلت على مسارح دول الوطن العربي فقد لا نتحمّل العدّ من كثرتها والأدهى من ذلك ان هناك المزيد منها الآن وغدا... ومنها ما يضحك ومنها ما يبكي على غبائنا وعلى قابليتنا لنصبح كما يريدون ولنصل الى ما نحن عليه الآن.
سنة 1973 يوم 15 من شهر أكتوبر قامت الأوبك برئاسة الملك فيصل آل سعود بقطع النفط عن الولايات الأميركية المتحدة وهو ما أطلق عليه في التاريخ السياسي المعاصر (صدمة النفط الأولى) التي أشعلت الرغبة المحمومة في كيان أميركا اتجاه المادة الحيوية بالمنطقة (النفط)، لتبدأ مخططها في اخراج بريطانيا من الخليج العربي والاستحواذ التام على منافد نفطه، ولان حكام هذه المنطقة لهم علاقات وطيدة لبريطانيا وفيها واجهة قوية تخدم مصالحها بعد انهيار الدولة العثمانية، ويصعب جدا قلب الأدوار لصالح أميركا فلم يكن أمام هذه الأخيرة إلّا إيجاد سيناريو مسرحي ضخم عالي الإخراج لتحقيق ذلك، فكانت إيران عنصر التحوّل فيه بطلها الخميني آية الله وصانعتها أميركا بمشاركة فرنسا... فأعطي دور الوحش العسكري المخيف في الاستراتيجية الأميركية لإيران حتى لا تجد دول الخليج العربي إلّا حضن الولايات الأميركية المتحدة للاحتماء، ومن هنا بدأ أداء المسرحية بامتياز بعد توزيع الأدوار وادخال إيران في المشهد السياسي المتمثل في اعداد الشارع والعالم لثورة صفوية إيرانية إسلامية بصورة مختلفة عن السابق، طبعا مع الاستمرار في اخراج سيناريوهات أخرى شكّلت قطيعة بين الخريطة الإدراكية البهلوية لتحلّ محلها خريطة إدراكية خمينية بأفكار كبرى وجديدة فصلت بمقاس طموحات أميركا وإسرائيل وإيران في الشرق الأوسط والخليج العربي، مثل تصدير الثورة الى الخارج وكذلك تحرير القدس عبر بغداد وكذا الحرب العراقية الإيرانية آنذاك بدعم صهيو-أميركي في نفس الوقت الذي نجحت فيه أميركا  بإلقاء شراكها بواسطة اسطولها السادس في مياه الخليج العربي والتحكّم الكامل على منابع النفط في المنطقة، والى الآن إيران ما تزال تلعب وباتقان وفن دور البعبع في المنطقة وتحرير القدس أخذ منحى آخر، إذ أصبح تارة يمرُّ عبر الشام ومرات أخرى عبر بغداد أو صنعاء ومن يعرف فقد يمرُّ مستقبلا عبر مكة والمدينة.
إذن فقد نسف عند الكثيرين منا وهم العداوة بين إيران وأميركا وإسرائيل المروّج له منذ 1979، فصحيح أن هناك اصطدامات دائمة بينها وأميركا بمسميات مختلفة من مخلب النسر الى فرس النبي... ولكن لا تتجاوز إلّا أن تكون مجرد مناوشات استعراضية، هدفها العبث بالرأي العام وترسيخ فكرة وجود عداوة بينهما وتضخيم دور إيران عسكريا على حساب الدور العربي، يكفي أنهما شريكتين في أربع جبهات عربية إضافة الى أن التاريخ فضح التعاون الإيراني لأميركا في حرب العراق وأفغانستان... ومن يقرأ للأستاذ الإيراني في الاقتصاد السياسي سابقا هوشناك نهاوندن يعرف أن أكثر العملاء تقدّم أميركا لهم الدعم هم الإيرانيون، عدا عن ذكر أحداث بوثائق ودلائل قوية وبتصريحات دبلوماسيين وإعلاميين عن قصة صناعة أميركا للخميني وللثورة الإسلامية في كتابه: (الخميني في فرنسا الأكاذيب الكبرى والحقائق الموثقة حول قصة حياته وحادثة الثورة) لأن ذلك كله يخدم أجندتها في المنطقة، الى جانب أن الوجود الإيراني يضمن عدم زوال الكيان الصهيوني الطفل الكبير المدلل لأميركا، فمن قدمت مليون من ضحايا شعبها في مسرحية دموية مقابل دخول أميركا الى الخليج قد تقدم ضحايا آخرين (فلسطين) وغيرهم من أجل استمرار اليهود الصهاينة وحمايتهم من أن يفقدوا أسباب وجودهم، فالعلاقات التاريخية بين إيران وإسرائيل تمتد الى أزيد من3000 سنة حيث تحافظ على وجود أكبر جالية يهودية فيها فهي أرض كورش والمركز الثاني لليهود بعد فلسطين المحتلة... ولا نستغرب أن يكون لهم مركز ثالث مثلا بشمال إفريقيا ورابع وخامس خوفا من زوالهم.
ان العلاقة بين أميركا وإيران وإسرائيل بالنسبة لي وأكيد للكثيرين منا علاقة غامضة  فظاهرها غير باطنها ، توليفة رمادية قاتمة لكن صورتها ليس مستحيلا أن تتوضح لنا إذا ما قررنا أن نتوغل بين أروقة التاريخ، فلا شيء سيزيح عنا عبء الاستفهامات الكبيرة إلّا العلم والمعرفة، والرهان الكبيرة في العالم العربي على الخبراء والمتخصصين في شتى المجالات وكذا مراكز البحوث العلمية الأكاديمية ليحاولوا إيجاد معادلات تساعدنا على إيجاد سياق يعيدنا الى سكة التاريخ.
لا أحد منا ينكر أن الخريطة الإدراكية العربية والإيرانية مشحونة بالصراعات وذكريات غير سويّة جذورها يعود الى الماضي، فإيران لعبت دور السيادة في الماضي ونحن قمنا بسرقة هذا الدور والآن تسرقه منا... انها لعبة الأدوار.
وفي رأيي حان الوقت لتغييرها عندما ندرك أن كل شيء مرهون على خريطتنا الإدراكية فهي موصولة بشريانين مهمين يتغذيان منها وهما الايديولوجي والجيوسياسي وعلاقتهما جدلية، فالايديولوجي يشحن الجيوساسي بدونهما لا ولادة لأي مشروع استعماري كان أو توسّعي أو فتوحاتي... على هذه الأرض الكبيرة لا وجود للضعفاء في هذا السياق اما أن تكون قويا وقادرا على فرض مشروعك كيف ما كان... واما أن تموت بعزلتك وتكون مجرد تابع يتلقى الأوامر ويطيعها كما نحن الآن. وهذا ما استوعبته إيران وإسرئيل لذلك فكلاهما تستغلان فرص التعاون حتى تحافظ كل واحدة منهما على قوى توازنها، فلذلك نراهما تصعّدان من الخطاب الايديولوجي مقابل الجيوسياسي لاستحقاق مزيد من الاتفاقيات (المشروع النووي)، فهما في حالة دائمة من الصد والرد، والمد والجزر حسب الجو السياسي في المنطقة والدول المحيطة فيها، وأوضح صورة لهذا المشهد التطبيع العربي سواء مع إسرائيل أو مع إيران وسيناريو الممرات التجارية... فخريطة ادراكهما قائمة على أساس (لا سلم ولا حرب) لانه ببساطة ليس من مصلحتهما ان يحضى العنصر العربي بالأمان والسلام لان ذلك يهدّد مشروعهما وطبعا لا ننسى المشروع الامبريالي الأميركي الغربي، أما طوفان الأقصى رمز المقاومة فهو قصة أخرى.

* كاتبة وباحثة بمجال الفكر