بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آذار 2023 12:00ص اتفاق الطائف طُبِّق عكسه!

حجم الخط
القرن العشرين كان قرن «العقائد» في السياسة، كما الحزب النازي، كما الحزب الشيوعي، كما الإخوان المسلمين، وكما الحزب القومي السوري، ثم تحوّل القرن الحادي والعشرين الى قرن «الهوية»!
وكان العالم يعيش منقسماً الى قسمين وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انقسم العالم من جديد الى قسمين: الدول ذات النظام «العقائدي» والدول «الديمقراطية» التي فيها الحريات. وفي الدول العقائدية كان الحكم بيد حزب واحد هو الذي يحكم وفق مبادئه العقائدية والإقتصادية والإجتماعية، وكان الإقتصاد في يد الحزب الواحد الحاكم، أما في الدول الديمقراطية فالأحزاب متعددة الإتجاهات السياسية وكانت الإنتخابات هي التي تختار الحزب الحاكم الذي يمكن ان يتحالف مع أحزاب اخرى قريبة من سياسته إذا لم يكن عدد نوابه مُشكِّلاً الأكثرية.
القرن العشرين كان قرن الحرب الباردة منقسماً الى مجموعة من الدول العقائدية وعالم آخر محكوم من احزاب تؤمن بالهوية. في نهاية القرن العشرين سقط حائط برلين ولم يعد العالم منقسماً الى بارد وساخن، ولا الى عالمين، وهرع ابناء الدول العقائدية الى النظام الديمقراطي، ونشأت دول العالم الثالث التي خرجت من الوصاية والإنتداب لِتُكَوِّن رأياً عاماً وتخوض معارك فيما بينها وبقي تأثيرها نظرياً في مجرى الأحداث اكثر منه فعلياً!
لبنان خاض الحرب الأهلية الأولى سنة 1958 في أيام حلف بغداد، فكان العالم الديمقراطي يساند كميل شمعون والعالم العقائدي يساند المعارضة التي كان على رأسها كمال جنبلاط وصائب سلام وخلال هذه الحرب الأهلية اللبنانية حصل انقلاب خطير في العراق أطاح بالعائلة المالكة وعُلق ولي العهد الأمير عبد الإله على المشنقة وسُحل نوري السعيد في طرقات بغداد وأعلن النظام الجديد تأييده لعبد الناصر، ونزل الأسطول السادس الأميركي على الشواطئ اللبنانية ونزلت فرق عسكرية في الأردن لحماية العرش الأردني وتغير وضع الحرب الأهلية في لبنان، دخلت أميركا مع عبد الناصر في مفاوضات تُبقي لبنان على الحياد ولا ينضم الى حلف بغداد ولا الى حلف في عالم الأنظمة العقائدية وانتهت الحرب الأهلية سنة 1958 بشعار صائب سلام: «لا غالب ولا مغلوب» واختارت أميركا وعبد الناصر اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية واستطاع فؤاد شهاب ان يُبقي الجيش على الحياد ويمنع إلتحام الطرفين بما يطيح بلبنان.
وبعد هزيمة العرب سنة 1967 قرر الفلسطينيون أن يأخذوا أمرهم وشؤونهم بيدهم فبدأت منظمة «فتح» بقيادة الإستقلالية الفلسطينية ثم كانت «منظمة التحرير الفلسطينية» وتكاثرت المنظمات وصارت أقوى المنظمات هي منظمة التحرير التي أسسها ورئسها ياسر عرفات وذهبت كل منظمة الى دولة عربية ولكن لبنان في ذلك خرج من «اللا غالب واللا مغلوب» بعد هزيمة 1967 ليسقط في العالم العقائدي الذي كانت سوريا من أركانه. فسقط «اللا غالب واللا مغلوب» على صوت واحد في انتخابات رئاسة الجمهورية بفوز سليمان فرنجية وأخذ لبنان بسليمان فرنجية يقترب من عالم «العقيدة»، فاندلعت حرب أهلية جديدة بدأت «بالبوسطة» التي مرّت في عين الرمانة تهتف لفلسطين وللعروبة في شوارع عين الرمانة حيث تسيطر «القوات اللبنانية الكتائبية» التي تميل الى العالم الديمقراطي فحصلت مجزرة بين أهالي عين الرمانة وسكان البوسطة أفضت الى أكثر من 25 قتيلا وفي محاولة لتهدئة الوضع جرى توقيع اتفاق القاهرة الذي حلّل الحرام وحرّم الحلال واندلعت حرب أهلية محطتها الكبرى كانت بجيش الردع العربي مكوَّناً من فرقة من كل الدول العربية الذي انسحبت منه مع الأيام الفِرَق العسكرية العربية كلها وبقي الجيش السوري وحيداً في الساحة فصار جيش الردع العربي هو الجيش السوري وصارت السياسة في لبنان هي سياسة سوريا وصارت السلطة الفعلية في الطريق الجديدة، وأُحرقت السرايا وصارت القرارات السياسية تصدر من صبرا وشاتيلا ومن الرئيس الأقوى من الرئيس اللبناني هو ياسر عرفات. وقُصف القصر الجمهوري وانتقل رئيس الجمهورية الى جونية! وسقط لبنان في عالم «العقيدة» محكوماً من سوريا وضباطها وحافظ الأسد!
من سنة 1975 الى سنة 1989 أسقطت الحرب الأهلية الإسلامية الفلسطينية المسيحية أكثر من 200 ألف قتيل الى أن كان الطائف لمحاولة العودة الى «اللا غالب واللا مغلوب»، ولكن المحاولة بالكاد أوقفت إطلاق النار ولم تُطبِّق ولا عالجت الأزمة علاجاً صحيحاً وحيادياً إذ ان أول من سقط من ضحاياها ثم اغتيل هو رئيس الجمهورية المنتخب في زغرتا رينيه معوض، صادقت على ما اتُّفق عليه في الطائف وسُمِّي «اتفاق الطائف». وكما اتفاق القاهرة اتفاق مار مخايل الذي ولّده اتفاق الطائف. القاهرة فتحت الباب صغيراً لسوريا فإن اتفاق الطائف فتح الباب عريضاً لسوريا فاستحكمت طبقة سياسية كبيرة ميولها الى العالم العقائدي وطبقة أصغر ميولها الى عالم الهوية.
وكان اتفاق القاهرة مسنوداً من سوريا واتفاق الطائف مسنوداً من السعودية وكان بطل الطائف هو رفيق الحريري، ولما شعرت سوريا ان الأجواء أخذت تميل الى الخروج من «اتفاق القاهرة» وفي ذلك الوقت تنحى الشاه امبراطور إيران ليأتي الى الحكم الإيراني رجال الدين فتحول الطائف الى «اتفاق قاهرة» جديد مسنوداً من سوريا وإيران.

المطلوب قانون انتخاب عصري، مجلس شيوخ، استقلال القضاء، حرية الزواج المدني، هيئة إلغاء الطائفية، تطبيق قانون الإثراء غير المشروع

ولكن الطائف أتى من حيث لا يريد، الى سوريا من جديد وأتى بإيران، وحل محل ياسر عرفات حسن نصرالله وحزب الله محل منظمة التحرير الفلسطينية وحصل خلل كبير بين الحرب الأهلية القائمة على «اتفاق القاهرة» والحرب الأهلية القائمة على اتفاق «الطائف».
في تطبيق اتفاق القاهرة، قاد الحرب الأهلية فيها منظمة ذكية قليلة الفساد أما مجموعة مار مخايل فأدار لبنان فيها مجموعة غاية في الغباء والفساد فانفجر الوضع في 17 تشرين 2019، ومرَّ اتفاق الطائف بمحطات وكان العراق في حرب مع سوريا وساند العراق قبل غزوه للكويت حرباً مقنَّعة سُمِّيت حرب التحرير وقادها قائد الجيش ميشال عون ولكن الخطيئة التي ارتكبها العراق عَزَلَتْه عن العالم فاستعاد حافظ الأسد مكانته في حكم لبنان وصار صدام حسين معزولاً.
وعاد لبنان فاقداً سيادته من جديد: أيام اتفاق القاهرة محكوماً من «طريق الجديدة» وأيام اتفاق مار مخايل محكوماً من الضاحية. هناك دمشق وهنا إيران.
واندلعت ثورة باردة وقفت باردة بدون قدمين عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون وصارت المعركة والحرب في انتخابات رئاسة الجمهورية وبين الحرب الأولى والثانية سقطت كل مؤسسات ومراكز الدولة ولم يعد في لبنان دولة بل صارت تحكمه دويلة، والجمر تحت النار والطائفية تغلي كما لم تغلِ في تاريخ لبنان الطائفي.
وقيادة الجبهتين كلها غباء وفساد، وهدير الحرب يطنّ في الآذان والكل يتكلمون والكل يجتهدون والكل يتخوّفون من الفوضى، ولكن لكل نائب رأي، في التايخ وفي أوقات كهذه يتقارب ويتّحد المتقاربون سياسياً للخروج من الأزمة ولكن لا أحد يحرّك ساكناً.
صمت وسكوت، والبلد ينزل أكثر في الهاوية وكأن اللبنانيين أصبحوا بلا مشاعر.
الأزمة أخلاقية بالدرجة الأولى والرأي هو الشيء الوسط بين العلم والجهل، وأكبر شرّ غير الظلم هو أن لا يدفع الظالم ثمن ظلمه.