بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 آب 2023 12:00ص التلاعب بالطائف

حجم الخط
بُعيد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف الذي إنتهى إليه اللبنانيون بموجب قانون، في 22/10/1989، بعد حروب شرسة، دامت زهاء الخمسة عشر عاما، شرع لبنان في تنفيذ بنود ما عرف بإتفاق الطائف. وضع لذلك خطة، بإجماع وطني، وبرعاية وكفالة، عربية ودولية. وكلما كان لبنان بشخص حكامه، يتعثر في تنفيذ بند من البنود، كان يحتال/ يتذاكى عليه، أو يطوعه، أو يتجاوزه، بحجة تأجيل الأخذ به، لحين توفر الظروف المناسبة.
كانت الحجج كثيرة، وهي بالتأكيد غير مقنعة، ولا مبررة، لأن الخروج من الحرب، بموجب وثيقة مؤتمر وطني، أقرّت كقانون، صارت بالتالي لها أحكام القانون، وصار بإمكان الجهة المتضررة، وهم اللبنانيون، الممثلون بالمجلس النيابي، أن يتقدموا بالطعون، وبالشكاوى، ويطالبون القضاء، وخصوصا مجلس شورى الدولة، والجهات الضامنة والشاهدة، بإصدار الأحكام الملزمة للحكومة، بالتنفيذ فورا مع التغريم، دون تأجيل، أو تبرير، أو مماطلة أو تسويف.
كانت العهود تتوالى وتتعاقب. وكانت لهذه العهود مشارب وغايات وأهواء ومصالح، تجعلها تحجم عن الأخذ ببنود الطائف المتعارضة مع أهوائها ومصالحها. ولذلك كانت تظهر الإحتجاجات وتقوى. ثم نراها تعظم، حتى النزول إلى الساحات والشوارع، بحجة عدم العدالة في تطبيق البنود. وكان يرد على الشارع بالشارع، وعلى الساحة بالساحة، حتى لا تستوي الأمور، ولا تنفذ البنود.
 لسنا في معرض الحديث عن أهم البنود التي إخترقت. التي لم تنفذ، لكنني أريد أن أذكر من فقد الذاكرة، أنه كان من  القيادات، كما كان من الطوائف، من لا تتخلى بسهولة عن مكتسباتها القديمة. وكان ذلك ينعكس على عمل المجلس النيابي. وعلى عمل اللجان في المجلس النيابي. وكان ذلك ينعكس، على عمل مجلس الوزراء. وعلى عمل المديريات التابعة للوزارات. وأما رئاسة الجمهورية، فكانت لها حساباتها أيضا، في الربح وفي الخسارة، من تطبيق هذا البند أو ذاك. ولهذا كانت تدخل في المساومات، وكأن ليس هناك الطائف، ولا ما يحزنون.
كانت أوراق وثيقة الطائف تتهاوى تحت عنف العواصف السياسية، التي سرعان ما أخذت تجتاح البلاد. وكانت الجهات الخارجية منشغلة عن  الإحتجاجات التي تبلغها والتي تبلغ حد الشكايات. وكانت الدول العربية الراعية لتطبيق بنود الإتفاق، وكذلك الدول الأجنبية، في شغل شاغل عن الإهتمام بذلك. فقد كانت لها مصالحها الخاصة، كما كانت لها حساباتها، من حسم هذه الأمور، والمجاهرة بالخروق الحاصلة، والعودة للمسارعة إلى تنفيذ جميع بنود إتفاق الطائف، بلا مساومة ولا تأجيل.
كان التلاعب بالطائف يبلغ أقصى مداه بحجج طائفية بحتة، تجير لحسابات شعبوية بحتة. ولحسابات شخصية بحتة. ولمصالح إنتفاعية، من التعامي عن تطبيق المبادئ والقوانين والبنود. كانوا يتلاعبون في التمديد للوجود السوري. وفي التمديد للرئاسة الأولى. وكانوا يتلاعبون في التكليف. وفي التأليف. وفي تعيين وزراء. وفي إخراج الوزراء، وإقصائهم عن وزاراتهم وإسنادها إلى غيرهم.  في أوساط الليل، قبل ظهور النهار.  كانوا يتلاعبون بالتعيينات، بحجج التوازنات الداخلية. وما تخلوا مطلقا عن التعيينات الطائفية. كانوا يتلاعبون بالموازنات وببنود الموازنات، لهذه المصلحة أو تلك. مراعاة للخواطر التي لا تقف عند حد. فلا الرجل المناسب في المكان المناسب. ولا فتح الأسلاك أمام الشباب، إلا بالعودة إلى 6و6 مكرر. التي نادى الطائف بإلغائها.
كانت الإنتخابات النيابية، عرضة لقوانين جائرة لا تراعي دستور الطائف، ولا ما جاء في مقدمته، ولا ماجاء في بنوده. وكان تشكيل الحكومات عرضة للبزارات السياسية الرخيصة. لا تأخذ بعين الإعتبار حجم الكتل، ولا تمثيلها على الأرض. كان التمديد للرئيس، من بين أعظم الخروقات. كانت الحصة الوزارية للرئيس، تمثل أشد، بل أقسى التلاعبات. ثم جاءت «التوافقية»، مع مؤتمر الدوحة لتمثل أعتى الضربات، أعتى اللكمات لإتفاق الطائف، الذي كان قد أفرد بنودا كثيرة، للحرية وللعدالة والديمقراطية، في العمليات الإنتخابية. وكذلك في التحضير لكل عملية إنتخابية. كانت أمراض النفوس الجهوية والطائفية، تظهر وتشتد على مبادئ و نصوص ومواد وثيقة إتفاق الطائف.
كان من نتائج التلاعب بالطائف، أن كرّست الطائفية من جديد. كانت أعتى وأشد من السابق. صار اللبنانيون يسألون عن مجلس الشيوخ الذي نادى به الطائف، حتى يكرس العدالة بين مكتسبات الطوائف. فلم يعد أحد يرد على السائلين عنه. ولا على أسئلة المتسائلين الشكائين البكائين، وهم في نفوسهم، لا يريدون إبطال الطائفية السياسية من القاموس اللبناني.
التلاعب بالطائف، أعاد التعيينات في جميع الإدارات والحقول، وعلى جميع الرتب والفئات، حتى على مستوى نواطير البنايات وكتاب العدول، إلى درجة الصفر من جديد.  وكذا ألغيت المداورة بين الوزارات. وصارت هناك وزارات سيادية ووزارات غير سيادية، لهذه الطائفة أو تلك، ولو على حساب النجاحات. كان الغرض من ذلك جني الارباح المادية. وجني المكاسب السياسية. ومراعاة لخواط العلاقات العربية والإقليمية والدولية. على حساب السيادة والإستقلال.
كرّس التلاعب بالطائف، بعض الوزارات للأقطاب، لأنها كانت دجاجة ثمينة. لأنها كانت بقرة حلوب. لأنها عادت تمول الأحزاب والميليشيات. فكانت الميليشيات والاحزاب تمول على حساب بوابات التهرب الجمركي. والتهرب الضريبي  ووضع اليد على الصناديق. وعلى موازنة الوزارات والإدارات العامة. والمصالح والإدارات المستقلة.
نعم التلاعب بالطائف، كان سيد المواقف، في جميع العهود. فلا دولة. ولا قوانين. ولا دستور. ولا مواثيق ولا معاهدات ولا عهود. فقد إنقضت الأحزاب والميليشيات والقيادات والطوائف، على بنود وثيقة الطائف، فكانت تمعن فيها نهشا، حتى أتلفتها. حتى بلغنا ما بلغنا، من إفلاس مالي. ومن إفلاس سياسي. وفقدنا المصداقية على كل صعيد.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية