بيروت - لبنان

18 حزيران 2023 11:25ص الجزائر تفضل روسيا والبريكس لا فرنسا والغرب

حجم الخط
بهدوء وثبات، ترسم الجزائر دورها وتؤكد حضورها، بنفس الدرجة التي تحافظ فيها على حدودها الجغرافية، المتداخلة مع ثوابتها الوطنية والعربية والافريقية والدولية. مساران متقاطعان ضمن استراتيجية عميقة مثقلة بدماء مليون ونصف مليون شهيد قضوا في مواجهة الاستمعار الفرنسي، حيث لم تزل فرنسا تحتفظ بجماجم عدد كبير من شهداء الجزائر في "متحف الجماجم" الذي تسميه السلطات الفرنسية "متحف الانسان" في باريس، والذين تشكل استعادتهم، مع تنقية الذاكرة التاريخية جرّاء الاستعمار والمبنّية على اعتذار فرنسا عن حقبتها الاستعمارية، حتى لا يتكرر الاستعمار مرة أخرى، أبرز العناصر المركزية لتطبيع العلاقات الجزائرية الفرنسية، رغم محاولات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون خلال زياراته الى الجزائر "بيع الجزائريين كلاماً معسولاً لا يحقق النتيجة المطلوبة" وفق ما يصرّح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون.

هذا على المستوى الوطني، أما على المستوى العربي، فتبرز فلسطين كقضية جزائرية بامتياز دونها الكثير من الخطوط الحمراء التي لا تقبل النقاش مع الجزائريين، الذي لطالما أشعلوا ملاعب كرة القدم بالهتاف تمجيداً لفلسطين، وتنديداً بإسرائيل. هذه بعض ملامح الصورة الشبابية والشعبية، أمّا الموقف الرسمي الجزائري فلم يخبو أو يخفت رغم تقادم الزمن. وفي هذا السياق يسجل للجزائر وقوفها بالمرصاد لمنع تثبيت عضوية اسرائيل في الاتحاد الافريقي الذي تأسّس بمبادرة من العقيد معمّر القذافي في 9/9/1999. كما يسجّل تصدّيها ورفضها الحازم لأي محاولة تطبيع مع الكيان الاسرائيلي، رغم أن غالبية جوارها العربي والافريقي يقيم علاقات دبلوماسية مع اسرائيل.

وتوازياً مع دعم واحتضان الثورة الفلسطينية والمصالحات المتنوعة التي أجرتها بين الفصائل الفلسطينية، فالجزائر لا تنفك وفي كل مناسبة وبلسان رئيسها تبّون عن إبداء دعمها لفلسطين والفلسطينيين وتنديدها بالكيان الإسرائيلي. ولعلّ في انسحاب مجلس النواب الجزائري من رئاسة المجموعة الاستشارية الرفيعة المستوى لمكافحة الارهاب والتطرف العنيف في الاتحاد البرلماني الدولي بسبب عضوية اسرائيل فيها، ما يؤشر على عمق وجذرية الموقف الجزائري من الاحتلال الاسرائيلي.

وفق هذا السياق، باتت الجزائر بمقارباتها المختلفة عن النسق الإقليمي الدولي الذي زرع الهشاشة والتحلّل في غالبية الجوار الجزائري، محركاً استراتيجياً متداخلاً في جوارها ومداها الإفريقي والمتوسطي والدولي. 

ولعلّ زيارة الأيام الثلاثة، التي أدّاها رئيس الجزائر عبدالمجيد تبون الى روسيا والتي لا يمكن وصفها إلّا بالتاريخية، قد رسمت معالم آفاق جديدة لعلاقات الجزائر مع روسيا، بفعل ما تخلّلها من إقرار عدة اتفاقيات تعاون استراتيجية حول التكنولوجيا النووية والتسليح المتطور وقطاعات الزراعة والاتصالات والثقافة بالإضافة لاستكشاف الفضاء لأهداف سلمية، ما من شأنه ترسيخ العلاقات القائمة منذ ما قبل استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي. وهنا كم كانت لافتة ومعبرة تدشين الرئيس تبون للنصب التذكاري للأمير عبدالقادر الجزائري في موسكو.

ليس أمراً عابراً أن يطلب تبّون من نظيره الروسي بوتين، التعاون في دعم ميثاق الجزائر لتحصين الاستقرار في دولة مالي الصديقة لروسيا والمجاورة للجزائر، وليس عابراً توافق الرؤى بين تبون وبوتين في دعم الاستقرار في ليبيا الدولة الصديقة لروسيا والشقيقة للجزائر.

هل يفكر زملاؤنا في البلاد العربية في إنشاء عملة عربية مشتركة او عملة واحدة؟ سؤال غير عابر، طرحه بوتين على نظيره الجزائري تبّون في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي العالمي.

سؤال بوتين هذا، كان في عمق أحلام القوميين العرب، والوحدة الاقتصادية العربية، ودعاة الوحدة العربية ومنهم تبّون نفسه ورؤساء الجزائر منذ هواري بومدين واحمد بن بلّله. ويرجّح أن بوتين قد طرح مشروع العملة العربية الموّحدة على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الامارات محمد بن زايد. وبهذا الطرح يكون بوتين، قد خرج من التلميح الى التصريح، بأن عالماً متعدّد  الأقطاب يمرّ وبالضرورة بعملة عربية موحدة.

أغلب الظن، أن عبدالمجيد تبون، قد فوجىء بطرح بوتين العلني لمشروع العملة العربية الموحدة، ولهذا كانت إجاباته مقرونة بالتمنيّات، مع نفي علمه بوجود مثل هكذا قرار، وتأكيده بوجود عملات قوية جداً في العالم العربي مثل العملات السعودية والاماراتية. لكن تبّون كان مباشراً وواضحاً وذهب مباشرة الى بيت قصيد زيارته لموسكو قائلاً لبوتين باسم الجزائر "نريد الإنضمام بأسرع وقت الى منظمة البريكس حتى نستطيع تحرير اقتصادنا من بعض الضغوطات بعيداً عن هيمنة الدولار واليورو".

إذن، كثيرة هي رسائل زيارة تبون الى موسكو، ومشاركته كضيف شرف في منتدى سان بطرس بورغ الاقتصادي العالمي.

أوّلها، أنّ الجزائر أفصحت عن تموضعها الجيواستراتيجي المنسجم مع عقيدتها التاريخية بعيداً عن هيمنة اوروبا والولايات المتحدة، وإملاءات وزير خارجيتها الذي حاول أن يفرضها على الجزائر، كما صرّح تبون.

ثاني هذه الرسائل، هي لفرنسا، التي كان من المفترض ان يزورها تبّون في ذات موعد زيارته الى روسيا، وذهابه الى موسكو ليس فقط من باب تفضيلها على باريس، وإنّما لدفع ماكرون وساسة فرنسا للإقلاع عن سياساتهم المراوغة بخلفية استعمارية، بما يتلائم مع معالجة جراح الذاكرة التاريخية العميقة للجزائر، ولعلّ في إصدار تبون مرسوماً بإعادة الفقرات المحذوفة من النشيد الجزائري الوطني والتي تقول: "يا فرنسا قد مضى وقت العتاب، وطويناه كما يطوى الكتاب. يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب" الى النشيد، ما يعبّر عن الديناميات العميقة المحرّكة للوجدان الاستراتيجي الجزائري.
ثالثها، موافقة بوتين وترحيبه بوساطة الجزائر من أجل السلام مع اوكرانيا.
رابع الرسائل غير المشفرّة، أثبتت أن الجزائر دولة مستقلة، لها قرارها الحر، ومقارباتها المتميّزة لمعالجة المشكلات الإقليمية والقارية والدولية. ما يعني بأن الجزائر باتت تلعب دوراً استراتيجياً متقدماً ومنسجماً مع تقاليدها وعقيدتها التاريخية. وهذا ما قد يجعل الجزائر في مرمى النيران الصديقة قبل العدوة، وهذا ما يحتّم على الجزائريين الافادة من دروس ليبيا والعراق وسوريا واليوم السودان، ويدعوهم لمزيد من الالتفاف حول الجيش الجزائري ومؤسّساتهم الوطنية، وتحصين بلادهم من غزوات واختراقات أشباه برنار هنري ليفي، وأدواتهم العاملين على ليبنة الجزائر وعرقنتها وسورنتها وسودنتها، رغم علمهم بأنّ الجزائر قد غادرت بركة دّم العشرية السوداء، ونجحت في تضميد جراحها ومعالجة تداعياتها.