بيروت - لبنان

اخر الأخبار

1 تشرين الثاني 2022 08:06ص تطبيق الطائف النتيجة المباشرة لفشل مقولة "الرئيس القوي"

حجم الخط

يُقر أكثر المقربين من الرئيس ميشال عون، بمرارة، بفشل عهد كان مُقدراً له قبل سنوات ست أن يشكل انطلاقة في رحلة عودة المسيحيين الى الحكم واستعادة زمنهم الجميل قبل اندلاع الحرب الأهلية.

لعلهم بذلك يعكسون مزاج عون نفسه وإن كانت الظروف وتفجر الأزمة بعد تراكمها طويلاً وتخلي الحلفاء ناهيك عن 17 تشرين وانفجار المرفأ وغيرها، هي الأسباب المُحمَّلة من قبل العونيين لهذا الفشل.

بغض النظر عن الأسباب وراء هذا الفشل، إلا أن المهم في الأمر استخلاص أن مقولة "الرئيس القوي" فشلت هي الأُخرى، لا سيما بعد الطائف واستتباب السلم الأهلي في عهد الجمهورية الثانية بعد اختتام الحرب الأهلية.

فالرئيس القوي صاحب الشعبية الكبيرة والمتصدر مسيحياً، والذي يستند إلى تلك الشعبية في المؤسسة العسكرية ويملك تحالفات عريضة داخلياً وقبولاً خارجياً، وهي صفات العماد ميشال عون قبل اعتلائه سدة الرئاسة، أثبت بالدليل الملموس أن أيّاً من تلك الصفات غير قادرة على حمايته في السلطة ناهيك عن حكمه بسهولة.

الأهم في الأمر في الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية أنه كان حاكماً مطلقاً، وإن كان غير فردياً، في عهود ما قبل الطائف، تحديداً منذ الاستقلال اللبناني العام 1943، ثم تقلصت الى حد بات معه محاصراً مع احتفاظه بتواقيع مهمة لا يكتمل عمل السلطة من دونه ليصبح أحياناً كثيرة معطلاً وسلبياً أكثر من كون إيجابياً في الحكم.

ما قبل الطائف كان الرئيس يتولى السلطة التنفيذية بمعاونة الوزراء الذين يعيّنهم قبل تسمية أحدهم رئيسا للحكومة كما كان له حق إقالتهم. هذه السلطة التنفيذية أصبحت بعد الطائف مناطة بمجلس الوزراء مجتمعاً حتى بات كل وزير رئيساً على وزارته، ومع دخول الأعراف الجديدة اليوم باتت قوة وزير المالية مثلاً كبيرة الى درجة يصبح معها قادرا على تعطيل البلاد من دون توقيعه..

كما أنه بعد الطائف بات لزاماً على رئيس الجمهورية تسمية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب واستنادا الى استشارات نيابية مُلزمة ثم يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مراسيم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم.. كما أن المقررات الوزارية التي لا تمر من دون توقيعه، فإنها أيضا باتت في حاجة الى توقيع رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصين..

الحديث يطول حول تقلص الصلاحيات الرئاسية ومنها عدم قدرة الرئيس على حل مجلس النواب كما سابقاً مع موافقة مجلس الوزراء، وبات عليه اليوم الطلب من مجلس الوزراء حل مجلس النواب وفقاً لحالات محددة لم تكن متوافرة حتى قبل الطائف. وهذا ما يشير إليه كثيرون حول ان رئيس الجمهورية لم يستعمل أصلاً صلاحياته الكثيرة قبل هذا الاتفاق.

لسنا هنا في معرض تعداد ومقارنة كل تلك الصلاحيات في العهود الماضية والحالية، مثل إجبارية التوافق مع رئيس الحكومة على دعوة مجلس النواب إلى عقود استثنائية.. وغيرها.. لكنه كان الحاكم القوي نتيجة معادلة بسيطة قام عليها نشوء الكيان في العام 1920، ومؤداها قبول المسيحيين بالانفصال عن فرنسا ومن ثم الاستقلال عنها، في مقابل صلاحيات كبرى تطمئنهم.

لكن سوء استخدام تلك السلطة وتمرد المسلمين الدائم عليها نتيجة اللاعدالة في توزيع تلك السلطة ومعها الثروات، وطبعا بسبب دخول عوامل غير لبنانية استثمرها المسلمون في الحرب لتغيير موازين القوى، كانت عوامل مضافة إلى عوامل إقليمية ودولية، أدت الى تعديلات الطائف.

طبعا لا يمكن فصل التغيّرات الواقعية التي طرأت على المشهد اللبناني منذ العام 1989، حين الاتفاق على الطائف، حتى الآن، وهي متغيرات ديموغرافية واقتصادية وعسكرية واجتماعية شكل المسيحيون سمتها الأبرز ليتراجعوا عن مركز القرار بعد أن لُقّب حكمهم يوماً بـ"المارونية السياسية".

وداخل الأروقة المغلقة في مدينة الطائف السعودية كما في الدوائر الخارجية المعنية، هيمنت فكرة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية بما خص العماد عون قائد الجيش حينها الذي دخل في حرب داخلية ضروس كان أركان الطائف على قناعة بأنه لن ينهيها قبل أن يصبح رئيساً. ولذلك شكلت تعرية الرئيس من الصلاحيات الأولوية وطبعاً تعزيز صلاحيات المسلمين وتعديل موازين القوى دستورياً، وكان لدى المشرعين حسن نية بما خص التعاطي مع ثغرات قد تظهر لاحقاً.. اتضح أنها فجوات كبرى.

نتيجة ذلك باتت مقولة الرئيس القوي فاقدة للمعنى بعد قتال الرئيس عون طويلاً طائفياً بما لا يملك من قوة، ما يوفر بدوره معنى كبيراً لمقولة "الرئيس الوسطي" أو "التوافقي". بتعبير آخر الرئيس الذي لا يملك من القوة التي تدفعه الى قتال الآخرين على الصلاحيات.

هي نتيجة مجحفة للمسيحيين ومؤلمة، فالطوائف الأخرى قادرة، وإن لم يكن دوماً، على تقديم مرجعياتها في الحكم، الأمر غير المشابه عند المسيحيين. وبما أن لا تغيير للطائف الذي لم يطبق أصلاً، فإن المأزق المسيحي سيتعمق خاصة في ظل الصراعات التي لا تنتهي للقيادات المارونية والتي أدت في ما أدت إليه إلى خروجهم من الحكم الفعليّ عبر الطائف نفسه.

المفارقة المسيحية هنا أن رغبة إعادة بعض الصلاحيات الى الرئاسة لا تتوافق مع اليقين بأن أي تعديل على الطائف سيكون على حساب المسيحيين قبل غيرهم نتيجة كونهم الطرف الأضعف في المعادلة وهجرتهم المتنامية.

على أن هذا الواقع يقدم دليلاً جديداً على أهمية تطبيق بنود الطائف الذي اتخذ اللبنانيون 16 عاماً من الحروب والدماء حتى توصلوا إليه. وأهم تلك البنود تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس الشيوخ على أساس طائفي ولكن من دون سلطات فعلية، وتطبيق اللامركزية الإدارية وغيرها من الإصلاحات الضرورية..

وبذلك لا يدفع المسيحيون لوحدهم الثمن، بل يصبح الحكم لمن هو أصلح بين الطوائف على طريق الدولة المدنية المنشودة.