بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تشرين الأول 2023 12:09ص جنون إسرائيل

حجم الخط
 كان الصراع على فلسطين مثل الجمر تحت الرماد، يرى الفلسطينيون بأعينهم كيف تدنّس مقدّساتهم، وكيف تنتهك حرماتهم، وكيف تستباح أملاكهم..
جعلتهم إسرائيل في القدر، وأخذت تضرم النار تحتها، كل يوم تقوم بالإعتداء عليهم، تأخذ الصبيان والفتيان والشيوخ، قبل الشباب، إلى المعتقلات، إلى أقبية التعذيب، إلى السجون.. وتوسعهم جلدا، تذيقهم ألوان المهانات، تذيقهم ألوان العذاب. باتت فلسطين شاشة لأفلام المجرمين الصهاينة، مسرحا دراميا بإمتياز. باتت حياة الفلسطينيين تراجيديا من الصباح حتى المساء، ومن النجر حتى الفجر. صارت حياتهم قطعة من العذاب كاملة على مدار الساعة، ليس فيها فرصة للهدوء، ليس فيها فرصة لإلتقاط الأنفاس.
كان الفلسطينيون يرون إلى العتو الإسرائيلي، إلى الجبروت الصهيوني، إلى الطغيان الإستعماري، كانت ظهورهم تشوى، وكانت أضلعهم تتكسر، وكانت عيونهم تقتلع، وكانت أطرافهم تبتر، وكانت نفوسهم تزهق.. يتلمظون الجمر في حلوقهم وفي أفواههم، وتتقلب أبدانهم على السياط، على السفافيد. كانت الأسيخ الإسرائيلية تغور فيهم. كانت الأسياخ الإسرائيلية تخرج من رؤوسهم.
كان الفلسطينيون، يرون بأم أعينهم، كيف تسرق الأرض من تحتهم. كيف تسرق المزارع والقرى والمدن. وكيف تفرض عليهم الإقامات الجبرية. وكيف تفرض عليهم الحجوزات. وكيف يمنعون من الإنتقال إلا بموجب التصاريح، تحدّد لهم بالساعات وبالتواقيت. وكيف تقطع عنهم الكهرباء والماء. وكيف تتدفق عليهم المجاري والقنوات والأمواه المتسخة، وشبكات الصرف الصحي. وكيف تلوث في دورهم وفي مزارعهم الآبار.
ويوما بعد يوم، كانت تتوسع على الفلسطينيين، دائرة المصادرات، وتهدم المنازل فوق رؤوسهم، وتجرف دورهم وبيوتهم.. تأكل الدبابات الطرقات بجنازيرها وبأفواه مدافعها، تماما كما تأكل الجرافات البيوت والسقوف والجدران والأسوار والأشجار، برفوشها وأذرعها المعدنية. يرون كيف تُفجّر الأحياء ويتكدّس الركام فوق أثاث بيوتهم وفوق رؤوس عائلاتهم، وشيوخهم وأطفالهم، ومرضاهم، طبقات طبقات.
هذا هو يوم الفلسطينيين كله، وهذا هو دهرهم. لا تطلع شمسهم إلّا على الخرائب. لا تلعب الرياح، إلّا بستائر النوافذ المشلّعة وبحبال الغسيل التي نسيت على عجل، في رحلات التهجير المستدامة، بين الأحياء التي تُجرف، بين المنازل التي تُهدم، بين القرى والمدن التي تستباح.
يتلفت الفلسطينيون، كل صباح وكل مساء، ذات اليمين وذات الشمال، فلا يروا من العالم، من يبادر إلى كف الأذى الإسرائيلي عنهم. يمضغون موتهم اليومي، والعالم كله، لاهٍ عن مأساتهم. يناشدون ضمائر العالم، يناشدون أمم العالم، يناشدون الهيئات الدولية، يعتلون المنابر ويصرخون في البرية، فلا يرجع غير صدى صوتهم إليهم. لا يرون نجدة منجد، ولا يرون وقفة تضامن، ولا يرون أحدا يشدّ على يدهم، يؤازرهم فيما توقع بهم إسرائيل يوميا من عذاب وقهر وإستلاب.. فيما توقع بهم إسرائيل من دماء. لا يجدون من يلتفت إلى قهرهم وعذاباتهم وموتهم، ولا من يذرف عليهم دمعة حزن، ولا يواسيهم في موتهم اليومي، ولا من يقف معهم في صفوف العزاء.
فجر السابع من تشرين 2023، فاضت الكأس، وطفح الكيل، كان الأقصى في ذروة التهديد، في ذروة الأوجاع، في ذروة الحصار، في ذروة القهر.. كان الأقصى في ذروة الموت، فجأة جرى الطوفان، صارت الأرض كلها تقول: لبّيك يا أقصى.
ردّد العالم كله: الأقصى.. الأقصى. شاهد العالم كله، بعينيه، ما لم يشاهده من قبل. شاهد طوفان الأقصى.. طوفان الأقصى العظيم، يهدر على الأسوار، يجتاحها، يرميها أرضا، ويلوّن الطبيعة بدم من شقائق النعمان.
شاهد العالم بأمّ عينيه، كيف تنهار الدولة الفولاذية، الدولة الإسرائيلية التي لا تهزم، كيف يجرفها طوفان الأقصى، ويكبها للذقن، ويمرغ جبينها المتعالي في الوحل، يذيقها طعم الوحل، وطعم الدماء، من كؤوسها المترعة.
شاهد العالم، عند الفجر، فجرا جديدا.. شاهد طوفان الأقصى، يجرف التاريخ العاتي، ويجرف الدولة العاتية، ويجرف القوى القوية العاتية. شاهد العالم بأمّ عينيه، كيف تنبت فلسطين الحمم والنيران فجأة.. كيف ينفجر البركان، بركان القهر، بركان الإستبداد، بركان الطغيان. شاهدوا بأمّ أعينهم طوفان الأقصى، يخرج سدما نارية.. يخرج حمما بركانية.. يطوف على الدولة الفولاذية ويجرف عتوها وظلمها، يجرف جبروتها، ويكبها للذقن، نعم يكبها مثل جثث الطغاة والمجرمين، من فوق أسوار السجون العالية والعاتية.. يكبها للذقن.
ثلة من الأبطال الفدائيين حقا، حملوا بكل جنونهم أكفانهم، وحملوا معها، طوفان الأقصى على ظهورهم، طافوا بنيرانهم، على الأسوار العالية، فهدموها، وأحرقوا بها، هياكل الدولة العاتية. أحرقوا الدمية التي ظنّت نفسها، مليكة على الأرض السليبة. أحرقوا عيون العالم المتجبر، الذي لم يرعه الظلم، ولا هزّ وجدانه القهر، ولا أرهبه الجنون الإسرائيلي، طيلة ثلاثة أرباع القرن.
حفنة من مجانين حماس، تردّ على الجنون الإسرائيلي، على جنون الدولة الإسرائيلية، طيلة دهر. ترد على مجنون إسرائيل، نتنياهو، على مجانين إسرائيل، سلطة ومعارضة، وتردعهم عن التمادي في تدنيس الأقصى.
جنون حماس، يستيقظ الصراع، يهزّ النفوس، ويدق جدران الخزان، يقرع جدران الخزان، كما يقول غسان كنفاني، في روايته «رجال في الشمس»، ليس أكثر.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية