27 كانون الثاني 2024 12:01ص رأس جبل الجليد

حجم الخط
وطن يضربه جبل الجليد بقوة هذه الأيام. يسيطر عليه من كافة النواحي، من كافة الأركان. كلما إنتظرنا أن يأتي الترياق إليه من العراق، يجده محاصرا بالجليد، لا يستطيع أن يفك عنه لغز هذا الجبل الجليدي الذي يحكمه اليوم. جليد في جميع القصور الرئاسية، جليد في جميع الملفات الساخنة، جليد في الوزارات وترنّح في الإدارات، ولا تجد ولو شعاعا واحدا من النور، يضيء لنا الظلمة المعتمة، يضيء لنا ليل العتمة.
لبنان أيضا وأيضا، يعيش اليوم في السراديب، في الأنفاق، أين منها أنفاق غزة، تراه مقطّع الأوصال، بلا أية نأمة، بلا أية حركة. فكل شيء جامد فيه، كل شيء محكوم بهذا الجبل من الجليد، الذي يسيطر عليه، فيمنعه عن تحقيق أي تقدّم، يمنع عن شعبه التفاؤل، يمنع عن شعبه الأمل، يمنع عن شعبه النظر في الأفق البعيد.
إذا نظرت في أحواله جملة، ترى ما يريب. فلا شيء يبشّر بالخير، على صعيد الإنتخابات الرئاسية. فلا تزال الرئاسة الأولى، تعيش تحت وطأة رأس جبل الجليد. فها هي السنة الثانية تمرُّ على الشغور الرئاسي، ولا تزال المتاريس عالية، تحمي رأس جبل الجليد من التفجّر، من الإنفجار، من التفجير. تمنعه من العودة إلى مجلس النواب، لإنتخاب رئيس، كما في سائر الأوطان، بصورة إعتيادية. فهل يظل أهل هذا القطب الجليدي، يتمسّكون بالمواقف ذاتها، لا يتزحزحون عنها، وكل شيء ينهار على الحدود، كل شيء ينهار على الرؤوس، كل شيء ينهار فوقنا، تحت السقوف؟!
ماذا ينتظر أهل هذا القطب الجليدي، حتى يبادروا لكسر رأس جبل الجليد الذي يحكم العلاقات واللقاءات والسياسات والإنتخابات؟ فهل دخلنا حقا إلى الإنتظام اليومي، للعيش تحت سقوف الجليد؟ هل صارت هذه السقوف الجليدية، هي الملجأ الأخير لنا، للإحتماء من الإنهيارات الكارثية التي تصيب أهل الجوار الإقليمي، فيما هي أيضا تصيبنا؟
نسمع كثيرا من النظريات السفسطائية، التي تبارك للبنانيين، أنهم بلا رئيس يتحمل المسؤولية. وأنهم بلا حكومة أصيلة، تمارس صلاحياتها المنصوص عنها في الدستور. يباركون للبنانيين أنهم في ظل حكومة تصريف الأعمال، لا يستطيعون أخذ القرارات الحمائية ولا القرارات المصيرية، وهذا ما يدفع عنهم اللوم والعتب والعتاب. وأن المجلس النيابي سيد نفسه، ولو قد أصابه الإنقسام العمودي الحاد. فلا يستطيع أن يمارس حقه في الإنتخابات الرئاسية. مما يدفع عنه تهمة التقصير، ويزيل من قلوب أهله الغمّة.
وأصعب من هذا وذاك، أن تسمع الأصوات السخينة، من القامات الرفيعة والعالية، كيف تهنئ نفسها، على عدم القدرة على الحركة، وعلى المبادرة، وعلى الرؤية في الليالي الضبابية التي تتحوطنا، تريد بذلك أن تبرئ نفسها من المسؤولية.
عقد يمرُّ على الربيع العربي، الذي جرف كل شيء إلى المهاوي، جرف بلدانا عظيمة في المغرب العربي، جرف مصر، جرف سوريا، وها هو اليوم يجرف فلسطين ويجرف غزة والقطاع. ولا نسمع من أهل الخيمة الجليدية عندنا، إلّا التقوقع على أنفسهم، وأنهم لا زالوا بخير، فما يطالهم الأذى. وأنهم بكامل لياقاتهم السياسية. فكل ما جرى هو حولنا، وهم يحمدون ربهم، أنه لم يكن علينا. فلا زالوا في مواقعهم السياسية، لم يتزحزحوا عنها قيد أنملة.
ما شعر القادة السياسيون في لبنان بعد، بحجم الإنهيار السياسي الكارثي الذي أضرّ به البلاد، جراء إصطدامه برأس جبل الجليد الذي تداول على ضربه وجلده، طيلة عقد ونصف من الزمن. ظلوا (على أرائكهم، سبحان خالقهم)، يتأقلمون مع ظروف الجليد، ويحاولون الإستمرار في حياتهم العبثية، ولو في ثلاجته. لا يقدّمون أي شيء لإزاحة جبل الجليد عن صدور الشعب، حتى بات الشعب، يعاني الموت أو مثله، في الهزيع الأخير. ليس له قوت يكفيه، ولا مدرسة للأبناء، ولا جامعات، ولا دواء ولا طبابة ولا رواتب، ولا عمل... ونضيف إلى كل هذا وذاك: لا ماء ولا كهرباء ولا هاتف ولا سقف، ولا فناء خلفي. حتى سئم الناس من حياتهم في ظل هذا الزمهرير الذي يعيشونه يوميا. في ظل هذا الزمهرير الذي يقتلهم يوميا، ولا يجدون في إنتظارهم الطويل، إلّا سوء المصير.
واليوم قد إشتدّت الأزمة وبلغت ذروتها، فقد ضرب رأس جبل الجليد، طرقات لبنان، وأصبح الناس لا يستطيعون الخروج من بيوتهم. ضرب رأس الجليد مادة الكيان اللبناني، داهمهم العدوان الإسرائيلي، هزّ  الجنوب، دمّر الأبنية السكنية وهجّر الناس بعمق عميق، ودفع بأهالي الجنوب إلى دور الإيواء من الحرب التي صارت قدرهم، عادوا إلى وطأة القصف والعصف وتفجير الدور والمنازل، وقنص الناس في السيارات والحقول.
وأكمل غضب الطبيعة طريقه إلى لبنان، لم ترحمه الهزات ولا الزلازل، لم ترحمه العواصف، لم ترحمه السيول. تشققت الطرقات، تفجّرت حوائط الدعم، وقعت الإنهيارات، إنخسفت الأراضي والجبال والحقول، وتزلزلت جدران المنازل، تهدّمت سقوفها، لم تعد تستطيع أن تحمل رأس جبل الجليد. صرنا نسمع كل يوم عن منزل تساقطت جدرانه. عن مدرسة أخليت لتصدّعها، عن مبنى حكومي، يكاد يسقط على المواطنين. بتنا نسمع كل يوم عن موت جديد.
ومثلما تعاني السياسة والسياسيون من تحكّم رأس جبل الجليد بهم، ها هي الأرض والدور والطرقات والسقوف والأبنية والعمائر، تدخل كلها في سوء المصير. وها هم اللبنانيون، بعدما أصابهم العدوان الإسرائيلي بنابه في الجنوب وفي عمق الأراضي اللبنانية، يعرضون لأذى الكوارث الطبيعية، التي تصيبهم بنابها أيضا، دون أن يجدوا من يقف إلى جانبهم في مثل هذة الملمّات الصعبة والقاسية.
فالجمود السياسي جراء جبل الجليد الذي يقبع على صدورهم منذ عقد ونصف، يؤول اليوم إلى عدوان وقحط وجوع وبرد وزمهرير، وتشقق الأرضين.
فهل من يدفع ويرفع عن لبنان واللبنانيين، رأس جبل الجليد؟! سؤال برسم السياسيين!