بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الأول 2023 12:00ص رئاسة وطن.. الحلم والكابوس

حجم الخط
قبل إقتحام الرئيس ايمانويل ماكرون ساحة التأزّم السياسي في لبنان مستبقاً الإقتحام بتفقّد حالات الدمار الناشئة عن التفجير المعروف المُجهَّل فاعله في ميناء بيروت وبزيارة للمطربة فيروز في منزلها، وفي ضوء تلك الزيارة التفقّدية أتبع الإقتحام بتكليف وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان (كان شغل أيضاً منصب وزير الدفاع) التعاطي كوسيط مع ملف أزمة رئاسة لبنان.. قبل ذلك الإقتحام كانت للرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان تجربة إقتحام مماثلة تمثّلت بتكليف جورج غورس بالملف اللبناني وتحديداً بالخلافات التي تتزايد في شأن مَن يترأس الجمهورية خلفاً للرئيس سليمان فرنجية (الجد) الذي إضطر مجبَراً لا بطل على إختصار ولايته الرئيسية ليتم بعد ذلك إحلال إلياس سركيس ضمن معادلة حدثت قبل سبع وأربعين سنة (أي في ربيع العام 1976) ولكم يحتاجها المأزق الترئيسي الراهن.
وللتذكير فإن رئيس الحكومة (الراحل) رشيد كرامي أحد كبار المقام السياسي زمنذاك مارس الدور الذي يمارسه لاحقاً صاحب المقام الشيعي السيد حسن نصرالله الأمين العام ﻟ«حزب الله» والرئيسان نبيه بري (رئاسة مجلس النواب ورئاسة «حركة أمل») مع إختلاف في النوايا والقدرات. زمنذاك تولى رشيد كرامي ترشيح إلياس سركيس الشهابي الهوى المستقيم (في إدارة البنك المركزي العازب الساكن في فندق) لرئاسة الجمهورية، وعلى طريقة الثنائي الشيعي راهناً ترشيح سليمان فرنجية (الحفيد). لكن ثمة مرونة في الحيثيات مفقودة من جانب الثنائي لجهة إختيار فرنجية ولا مجال لتسمية غيره، بينما كانت حيثيات رشيد كرامي في إختياره إلياس سركيس تتسم بحصافة القطب السياسي الذي يمتلك النظرة الواقعية للأمور وليس ورقة الإستقواء بالشأن السلاحي الذي هو القدرة الوازنة لدى الثنائي (حزب الله وحركة أمل). وتعكس عبارات رشيد كرامي في ترشيحه إلياس سركيس ما نقوله في هذا الشأن، حيث سجَّلها على الملأ بالقول: «في ضوء المواصفات التي نراها في رئيس الجمهورية العتيد، وعلى هدى المهمة التي تنتظره بعد هذه الآلام والمآسي التي حصلت، وتقديراً لكل هذا وما نرجوه من إصلاح يتلاءم مع التطور وتحقيقاً للبنان الغد، وبعد الاتصالات والدروس، قررنا تأييد الأستاذ إلياس سركيس داعين إلى الله التوفيق بمؤازرة الجميع، ذلك لأن هذا المركز كغيره هو تكليف وليس بتشريف، على أن هذا لا يعني إنتقاصاً من قدْر الآخرين بل إننا نقدِّر كل واحد يطمح إلى هذا المركز، لكن المطلوب واحد والمرشحين كثيرون، فإذا لم يحصل الإجماع عليه نثق بأن التنافس سيكون رياضياً آملين الخير لهذا الشعب راجين أن يكون الاستقرار والأمن السبيل إلى عودة الحياة الطبيعية...».
من الجائز القول إن المداوي الفرنسي الحالي لودريان بتكليف ماكرون كما السابق غورس بتكليف جيسكار ديستان لن يشفيا الداء الرئاسي اللبناني في حين أن هذه الوصفة من جانب قامة سياسية لبنانية عريقة والأسلوب في التخاطب الحاوي من «الكلام الذي يحنن» وينأى عن «الكلام الذي يجنن» وهذا من الأمثلة الشعبية العريقة من زمن الأجداد والجدات، فعل فِعله حتى لدى الأكثر تشدّداً في الصف الماروني المتداوَل إسمه في بورصة الرئيس الوارث لرئاسة سليمان فرنجية المنقوصة بضعة أسابيع، ونعني بالذات رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل رحمة الله عليه مع التمنّي بأن يعتمد الحفيد سامي الجميّل خصوصاً بعد المصاهرة اللافتة، حصافة رشيد كرامي في تخاطبه الذي تعلو الحدة فيه بعد كل مرة يتحدث فيها شاهراً مفردات لا تحقق ما يأمله المتطلعون إلى سكب المزيد من الماء البارد على نار التباغض التي تزيدها المفردات إشتعالاً وعناداً لدى الطرف المستهدَف وتحديداً «حزب الله» و«حركة أمل» من دون الأخذ في الإعتبار أن هذا الثنائي مستحوذ على النسبة الأعلى من ولاء جمهوريْ الطائفة (حزب الله وحركة أمل) لهما. وكنموذج لمضمون التخاطب المأمول من جانب رئيس الكتائب سامي الجميّل الأخذ به نستحضر إعلان جده الشيخ بيار الجميل عزوفه عن الترشح لرئاسة الجمهورية، وهو المتداول إسمه زمنذاك في أوساط طائفته أكثر من غيره، بعد الحيثية التي أوردها رشيد كرامي يوم الجمعة 16/4/1976. فقد أعلن الشيخ بيار الجميّل في اليوم التالي (السبت) ومن دون الإكثار من التشاور مع رموز الطيف السياسي الماروني أنه غير مرشح للرئاسة واضعاً في الوقت نفسه (كي لا يقال أنه مع رشيد كرامي في إختياره إلياس سركيس بالذات) مواصفات الذي يفضّله رئيساً للجمهورية ومنها «أن يكون حائزاً ثقة الأكثرية من اللبنانيين بعيداً عن أجواء التحدي وقريباً من الرضى العام وأن تتوافر له طاقات العطاء والعمل المجدي في المرحلة المقبلة، هذا عدا ما يجب أن يتصف به من صدق وإخلاص وقدرة على بناء الدولة وإعلاء شأنها داخلياً وخارجياً...».
كان بمقدور الشيخ بيار أن يعتمد الحدة تعبيراً عن موقف لجهة الترشيح، ذلك أن شأنه الحزبي، إذا جاز القول، بمثل شأن «حزب الله» راهناً وذلك لأن إبنه بشير متمكن إلى حد كبير سلاحاً وجماهيرية ولكنه آثر الموقف الهادىء والمتناغم مع موقف القُطب السُني، ربما لتمهيد الترؤس مستقبلاً أمام إبنه بشير وهذا ما حدث بعد إنتهاء ولاية إلياس سركيس، وربما لأنه يحرص على لبنان الباقي موحَّداً. وفي الرُّبميْن خيراً كان موقف الذي يُذكر له كمِثل ذكْر مماثل للقطب السُني رشيد كرامي رحمة الله على الإثنيْن.
ما يراد قوله من هذا الإستحضار والهوامش تفادياً لإحتمال المبغوض حدوثه كما الذي باتت عليه أحوال السودان، هو أن أهل العمل السياسي الحزبي القوي بسلاحه أو القوي بمعتقده أو القوي بإستقلاليته، مطالَبون بترتيب أمورهم من دون إضاعة وقت وطروحات تأتي حالياً من الوسيط الفرنسي لودريان وسبق أن أتت قبل حوالى نصف قرن من وسطاء آخرين، من بينهم على سبيل المثال دين براون الوسيط الذي إختاره الرئيس الأميركي جيرالد فورد مزكّى بتوجيهات وتخريجات كيسينجرية، وكوف دو مورفيل الذي إختاره الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، والدكتور حسن صبري الخولي الذي إختاره الرئيس أنور السادات.
في زمن الوسطاء الذين أوردنا أسماءهم وكانت لهم مواقف متعاطفة مع الأحوال اللبنانية ورغبة حقيقية في أن يسْلم الكيان والصيغة من خيارات غير محسوبة بدقة، كان الضيف الفلسطيني لاعباً من جملة اللاعبين في الساحة اللبنانية ثم بات في جزئية منه هذه الأيام متلاعباً وشريراً. وكان الشقيق السوري الأسدي مصوِّباً على لبنان بأمل جعله إقليماً في صيغة إتحادية على نحو ما كانت عليه سوريا إقليماً في «الجمهورية العربية المتحدة». لا الحلم السوري تحقق وهذه سوريا مرشحة لأن تصبح أقاليم ولا الحلم الناصري صمد. وها نحن على مدى بضعة أيام من الذكرى الثالثة والستين لإنفصال سوريا عن مصر (28 سبتمبر/أيلول 1960). ومن بعد تلك التجربة باتت أحلام بعض أوطان الأمة تنحصر في بقاء الكيان على حاله لا يصيبه ما أصاب سوريا واليمن والسودان وليبيا والعراق.. وها هو لبنان برسم الإصابة لا قدَّر الله، فيما اللبناني المغلوب على أمره والناجي من جانحة أحزاب وقوى وحركات التلاعب بالمصير الوطني يواصل التساؤل: لماذا عمى البصائر هذا؟ وإلى متى ستبقى رئاسة لبنان صناعة غير لبنانية يصار إلى تسويقها كسلعة نادرة غير خاضعة للمفاصلة؟ بل إلى متى ستبقى الرئاسة اللبنانية الأولى مثل كرة تتقاذفها أقدام فريقين يجاهد كل منهما للفوز بالمباراة الميلودرامية؟ أليس أكرم لأولئك اللاعبين المعطِّلين أن لا يكونوا متلاعبين بأقدار الوطن والشعب عموماً وجمهورهم من هذا الشعب؟
وفي ضوء ما هو حاصل ستصبح العبارة التقليدية للترويج «صُنع في لبنان... عدا رئاسة الجمهورية».
والله مع الصابر إذا صبر في إنتظار تحقيق حلم السيادة الحقيقية للوطن وإرتداد الكوابيس إلى ما وراء السياج.