بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الأول 2022 08:05ص روسيا والترسيم البحري مع سوريا

حجم الخط
تبيّن الوقائع أن بعض المسؤولين وخلافاً للمثل المعروف، يفوشون بكوب من الماء. فمن حق ساكن قصر بعبدا في أيامه الأخيرة التنقيب عن أي إنجاز يختم به عهده الميمون. لكن استعجاله محاولة حصد ومراكمة الإنجازات كان ينبغي أن تتم بشيء من الرزانة السياسية والكياسة الدبلوماسية. ربما إدارة وتوجيه بعض مقرّبيه تسبّبت في ارتكاب الأخطاء غير الدبلوماسية في كيفية التعامل مع دمشق.
خلال بحثنا في الإعلام الرسمي السوري وخصوصاً صفحة رئاسة الجمهورية العربية السورية، لم نعثر على خبر إتصال عون بنظيره السوري بشّار الأسد، فضلاً عن أخبار الترسيم البحري مع سوريا، وتشكيل وفود لأجل متابعتها. بخلاف لبنان الذي ضجّ إعلامه الرئاسي بأخبار تشكيل الرئيس عون وفداً برئاسة النائب إلياس بو صعب ممثله في المفاوضات مع الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، لزيارة دمشق يوم الأربعاء. المفاجأة كانت برسالة الخارجية السورية الى نظيرتها اللبنانية تلغي فيه موعد الزيارة لأنه «غير مناسب». انها العبارة اللائقة التي تخفي لكمة دبلوماسية سورية لممارسي لعبة الخفة السياسية في لبنان الذي سيخرج البعض منه لاتهام الدولة السورية برفض الترسيم البحري.
الترسيميون في لبنان يشعرون بنوع الزهو لا سيمّا بعدما قلّدهم ميشال عون الأوسمة الترسيمية، فظنّ وظنوا أنهم باتوا يمتلكون المفاتيح الأميركية التي ستفتح أبواب الترسيم خصوصاً مع سوريا. وإذا كانت المفاتيح الأميركية تفتح في الحدود الجنوبية فلأن هذه المنطقة حتى البقاع الأوسط تقع ضمن دائرة النفوذ الأميركي الذي تتبدى أقصى اهتماماته الاستراتيجية في الاستحواذ على نفط وغاز المنطقة. في حين أن المنطقة الشمالية باتجاه الداخل السوري تقع ضمن مدارات النفوذ الروسي وراداراته. وفي هذا السياق فالولايات المتحدة ربما تمتلك عرقلة الترسيم مع سوريا، لكنها حتما لا تستطيع فتح أبوابه لأن مفاتيح ترسيم الحدود البحرية مع سوريا هي بيد فلاديمير بوتين حصراً.
ثمة خطأ في القراءة الجيوسياسية لتوازنات المنطقة، وأيضاً في فهم الجيوبوليتيك الذي يحكم نسيجها العام. خطأ جعل الأداء اللبناني تجاه دمشق مغلّفاً عن قصد أو جهل ببعض التنمّر الذي أُجهض بلكمة دبلوماسية. لم يراكم ساسة لبنان سوى الأخطاء التي وسمت غالبية العهود وليس عهد ميشال عون الذي لا أحد يعرف سبب استفاقته الأخيرة على مهاتفة الأسد لأجل الترسيم البحري. فالخلل في العلاقات اللبنانية - السورية لا يسمح للرئيس عون بممارسة ألعاب الخفة مع الأسد في اللحظة التي يميل فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باتجاه تطبيع العلاقات معه، وقد سبقه الى ذلك بعض دول الخليح العربي.
لا أحد يعرف استفاقة عون هذه التي أعطت نتائج عكسية تماماً. والى الأخطاء البروتوكولية الناتجة عن اختزال التنسيق بين الحكومتين بدل تخصيبه جيداً، ثمة تساؤل لم يطرحه عون ودائرته اللصيقة على أنفسهم، حول الأسباب التي تجعل بشّار الأسد يتلقف دعوتهم لكي يقدم لهم الهدايا الترسيمية لحظة أفولهم. المشكلة ورغم التجاور الجغرافي والتاريخي بين لبنان وسوريا، أن الفهم المتبادل مفقود. من أزمات العرب العميقة أنهم يفهمون الخارج ويتفهمونه وغالباً ما يبررون له أخطاءه وخطاياه، أكثر من فهمهم وتفهمهم وتبريرهم لبعضهم.
توازياً مع لغة الهدايا السياسية، فالهدايا تقدم لعهد جديد ضماناً لاستقرار مقبل قائم على المصالح المتبادلة. وبعيداً عن لغة الهدايا، فما نحن بشأنه هو حقوق سيادية لا يملك بشّار الأسد التفريط بها سورياً، ولا يملك مطلق مسؤول لبناني التفريط بها لبنانيا. وبداية القصة من المرسوم 6433 الذي أودعه لبنان في الأمم المتحدة والذي رفضته سوريا عبر مندوبها في الأمم المتحدة بشّار الجعفري الذي اعتبره وكأنه غير موجود. ثمة حدود بحرية متداخلة، مساحتها بين 750 و1000 كلم2. وهذه الحدود تحتاج لمفاوضات لبنانية - سورية يضطلع الجيش اللبناني (المغيّب عن الوفد الى سوريا) بتحديد احداثياتها الدقيقة المنطلقة من منتصف رأس مجرى النهر الكبير.
في الترسيم مع سوريا، برز كلام لافت للمبعوث الشخصي للرئيس بوتين الى سوريا الكسندر لافرنتييف يبدي فيه استعداد بلاده للمساعدة في الترسيم البحري بين لبنان وسوريا. لكن لم يعلق أو يتوقف أحد من جهابذة لبنان على الكلام الروسي، علماً أن روسيا ومن خلال تواجدها العسكري في طرطوس باتت دولة مجاورة للبنان، ولا سيّما أنّ الحكومة السورية تعاقدت مع شركة «كابيتال» الروسية للتنقيب والاستكشاف في البلوك رقم 1 السوري المتداخل مع لبنان وبيت قصيد الترسيم البحري.
وإذا كان عاموس هوكشتاين الوسيط الأميركي في الترسيم البحري مع «إسرائيل» والذي سيصل بيروت الأربعاء لتسليم الرئاسة اللبنانية نص اتفاق الترسيم (الناتج من مفاوضات أميركية - إيرانية تردّد أنها في قطر بوصفها أيضا الوريث المرجّح لحصة روسيا في كونسرتيوم النفط جنوباً) موقّعاً من الإدارة الأميركية والذي سيجري توقيعه من جانب إسرائيل ولبنان الخميس في مقر الأمم المتحدة في الناقورة، فماذا عن الترسيم مع سوريا؟
أغلب الظن أنه ونتيجة لترسيم خطوط ومناطق النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، فإن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع سوريا سيمرّ وبالضرورة عبر روسيا الدولة الجارة للبنان انطلاقا من حدوده البحرية الشمالية (والتي سبق لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري أن طلب وساطتها في ملف الترسيم البحري مع سوريا)، الأمر الذي من شأنه أن يعبّر عن التوازن الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، وبين «إسرائيل» وإيران من جهة ثانية، لنكون أمام ثلاثيتين: «الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران/ لبنان جنوباً»، و«سوريا ولبنان وروسيا شمالاً».
الغريب في الأمر أن السعودية بوصفها صاحبة النفوذ القوي في لبنان بعيدة عن ملفي الترسيم شمالاً وجنوباً، ونراها هذه الأيام تقاتل دفاعاً عن اتفاق الطائف وديمومته، وسط خشية جدّية من ولوغ مقصات الترسيم في مفاصله الأساسية.