بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 أيار 2023 12:00ص ريمون إده: «نعشك عرشك وعروشهم نعوشهم»

حجم الخط
فرنسا ما زالت تحتفل بذكرى كليمنصو وشارل ديغول.
أميركا تحتفل بذكرى جون كينيدي.
الأسبوع القادم يحتفل اللبنانيون بذكرى ريمون إده الذي نفتقده هذه الأيام التي حلّت بسبب الحرب الأهلية الباردة المستمرة، زمرة فاسدة أسوأ من زمرة الحرب الأهلية.
هذه الأيام نتذكّر بكثير من الإجلال ريمون إده الذي كان مثالاً لرجل الدولة ورجل الجرأة والسلام والازدهار.
ريمون إده كان يقول لنا في باريس أن نبتعد عن ميشال عون لأنه بطل مزيف، ففي الوقت الذي كان يرفع شارات الإستقلال والسيادة ويهاجم التدخّل السوري، بل الحكم السوري للبنان، كان يفاوض السوريين والإيرانيين من خلف الستار، وكان العميد يحذّرنا من أنه إذا وصل هذا الرجل الى الحكم فإن لبنان يسقط في أسوأ أيامه! 
لم يعرف لبنان رجل دولة مثل ريمون إده سوى فؤاد شهاب وبشير الجميل!
هذه الأيام «كلن يعني كلن»، ليس في جحيم الواقع الحالي أي رجل دولة كريمون إده، ولكن العميد ينقصنا وليس لدينا عميد يهز أركان الطبقة الحاكمة، والشعب اللبناني انهارت نخوته، فقد ثار على الطبقة السياسية ولما جاءت الانتخابات انتخب نفس الطبقة السياسية، والذين هم قرب رجل الدولة ريمون إده، قرب سلوك ريمون إده، ليس لهم مكان في انتخابات الرئاسة.
لبنان يتيم في غياب ريمون إده.
كنا في باريس كلما جاء رجل دولة من بلد عربي طلب الاجتماع بريمون إده، كان بعد الاجتماع يخرج أكثر إعجاباً بهذا الرجل العملاق!
كان ضد اتفاق القاهرة، وعرض عليه كمال جنبلاط الرئاسة فرفضها لأن اتفاق القاهرة يمهّد للحرب الأهلية، وهو لا يريد رئاسة في حرب أهلية.
كان حريصاً على الأمن والأمان، فحين عبرت موجة اشتباك من الحرب الأهلية اختفى ثلاثة مسيحيين كانوا يركبون السرفيس من البرج الى الشياح. وجنّد العميد نفسه كوزير للداخلية حتى قادت الاستقصاءات الى ان الخاطف هو من جماعة «شهاب الدين». خلال ثورة 58 أوقَف كل أعمال آل شهاب الدين في المرفأ، فجاء آل شهاب الدين الى العميد يسألونه: لماذا؟ فقال لهم العميد ان خاطف الثلاثة هو من جماعتكم ومحمي منكم، فأعلنوا بصراحة للعميد انهم تخلّوا عنه بعد الثورة وانه لجأ إليهم. فطلب تسليمه وانتقل هو بنفسه الى البسطة وخلفه الشرطة وسلّم جماعة شهاب الدين الخاطف الذي كان اسمه «التكميل».
وكان العميد قبل ذلك قد عمل على إصدار قانون «إعدام القاتل»، فأحال العميد «التكميل» الى المحاكمة التي حكمته بالإعدام، وتردد رئيس الجمهورية والوزراء المختصين في التوقيع على تنفيذ الحكم، فهدّد ريمون إده بالإستقالة، فسلّم الرئيس والوزراء بالأمر وأحالوا «التكميل» على الإعدام، وحرص العميد أن يغطي الإعلام شنق المجرم الذي قتل ثلاثة أبرياء وبدون سبب سوى ذريعة اعتقاده ان الثورة قد عادت فحلّل الحرام وحرّم الحلال!
ومنذ ان عُلِّقت مشنقة «التكميل» لم يحصل أي اعتداء يثير الشغب في البلد الى أن وُقِّعت «اتفاقية القاهرة» وأجيز للفلسطينيين حمل السلاح، بدأت الناس تتسلح وبدأت الجرائم تتكاثر!
وكان العميد صاحب نظرة حكيمة في الاقتصاد. فكانت حركة العمران في بيروت غائبة عن الوجود لأن قانون الإيجارات يمدد للإيجار فيصبح المستأجر مالكاً، وتوقفت حركة العمران طالما ان التوظيف في ميدان العمران لا تؤتي ثماراً. فوضع العميد مشروع قانون جديد للبناء الفخم: البناء الفخم لا يمدَّد له سوى لخمس سنوات والبناء الفخم هو البناء الذي فيه مصعد وتدفئة وبواب، وهو يعمّر لخمس سنوات! أما باقي المستأجرين فتنطبق عليهم حرية التعاقد، فأقبلت الاستثمارات على العمران وعمّرت بيروت وطرابلس وكل المدن من جرّاء هذا القانون! ثم درس «سرية الحساب المصرفي»، فأقرّه مجلس النواب ثم كان للعميد معركة سياسية مع رئيس الجمهورية لتوقيعه. فالرئيس شمعون كان يقول ان هذا مفيد «للحرامية»، فجاء العميد للرئيس بالنظريات القانونية وبكيفية رفع السرية حين تكون هناك تهمة أقرّها القضاء، وظل العميد مثابراً حتى أقرّ قانون «سرية الحساب المصرفي»، وزحفت الأموال الى المصارف وكثرت المصارف وتكاثرت التسليفات وازدهرت الأسواق كما والحركة الاقتصادية.
ولم يخطر على بال العميد ان طبقة سياسية من الحرامية ستستفيد من «سرية الحساب المصرفي» وتشلّ القضاء وتقضي عليه وعلى دوره وتسرق البلد وتنشر الفساد وليس هناك قضاء يُسقط سرية المصارف حين تثبت تهمة الرشوة أو تعمّد القتل و.. و.. حين تثبت التهمة تسقط «السرية» عن الحساب. 
عند وفاة العميد بكيناه، ودخل لبنان الى الجحيم، كان للعميد في قلوب الناس مكانة واحتراماً، ولُفَّ نعشه بالعلم اللبناني وبكلمات «نعشك عرشك وعروشهم نعوشهم».
هل يستحق شعب لبنان ريمون إده؟
انتقل الى باريس بعد ثلاث محاولات اغتيال، واحدة «كتائبية والإثنتان سوريتان»، وكان يقول أنا في باريس لخدمة شعبي.
ولكن شعب ريمون إده جدّد لطبقة الحرامية بعد أن أعلن الثورة عليهم! هل تعب شعب لبنان؟ هل شاخ وكان فيه رجال دولة مثل ريمون إده وفؤاد شهاب لم يعد لهم وجود؟
ريمون إده ليس رجل دولة فحسب بل رجل التاريخ والوطنية.