بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 كانون الثاني 2024 12:01ص صارت غزة مدينة مقدّسة

حجم الخط
تحارب إسرائيل في غزة بعناد قوي، لأنها تمثل أنفاق المقاومة، لانها تمثل أنهار المقاومة وينابيعها، لأن أهل غزة صاروا، مادة المقاومة.
وتحارب أميركا ومن إلى جانبها في غزة، لأنها خزان عظيم، لحقول النفط والغاز. ويستميت الفلسطينيون دفاعا عن غزة لأنها مدينتهم وحصنهم الحصين، حصنهم الأول والأخير، ولا حصن لهم بعدها، فإذا ما تهدّدت وضاعت، تهدّدت القدس والضفة والقطاع، تهدّدت فلسطين كلها. وأما حرب المسلمين جميعهم في غزة، فهي قد صارت حربا مقدّسة.
إستفاق المسلمون بعد المد الإسلامي فيها، على غزة، وجد فيها آل البيت تاريخهم، وجدوا فيها جذور الهاشميين والطالبيين. أليست هي في التاريخ العربي والإسلامي: هي غزة هاشم، وشعب أبي طالب؟ ألم يهاجرا إليها من بطحاء مكة، ويتخذاها بلدا لهما، نأت بهم بطحاء مكة إلى هنالك، حتى تكون لهما دارا ومستقرا، فعرفت منذ ذلك التاريخ، بغزة هاشم، بدارة قصي، وكذلك بشعب أبي طالب؟!
قليلون من يعرف سر غزة من المسلمين، من آل البيت، من الطالبيين. وأنها تمثل واسطة العقد، وأنها وجدت تكوكب المسلمين حولها، منذ تاريخ بعيد، منذ المد الإسلامي، ضالتها، فصارت عنوان الثورة الإسلامية، بعد تسلّم الشيخ أحمد ياسين بابها. صار المسلمون يستميتون لعينيها، لأن حربها، غدت حربا مقدّسة.
ومثلما غزة دارة الهاشميين وموطنهم الذي عظموا فيها، فهي بوابة مكة. عاد منها، ولده قصي وأهل بيته، ليكون سادن الكعبة. أنزل أهله من بطحاء مكة إلى البيت بساعد من أهل غزة، فتوسّع البيت بهم، وتوسّعوا به. صار البيت العتيق بعد دار الندوة لكل قريش، لكل العرب، أكثر سعة.
دعوى المسلمين جميعا في غزة، دعوى مقدسة، يعلنون ذلك في أدبياتهم الدينية وفي مأثوراتهم الشعبية. هي غزة هاشم، كما روى الطبري، هي بعض شعب أبي طالب، كما روى ابن الأثير وابن كثير، ولهذا فهم لا يرجعون عنها، مهما أطال الإسرائيليون الحرب فيها. فهي إذن مربط خيل العرب والمسلمين، دفاعا عن القدس، وهي حصنهم الحصين، دفاعا عن البيت العتيق، ولهذا يجتمع على غزة اليوم، العرب والعجم وجميع المسلمين، للدفاع عنها، لوقف الحرب عليها، لإنقاذها من الطاغوت الإسرائيلي الذي يدمرها.. الذي يبيد أهلها.
ليس غريبا، أن يكون البحر المتوسط، بحر غزة، ولا البحر الميت بحر غزة. ليس غريبا، أن يكون البحر الأحمر بحر غزة، وكذا باب المندب، وكذا إيلات، وكذا خليج العقبة. فكل هاتيك البحار والخلجان، صارت بحار غزة وخلجانها. صار الدفاع عن غزة في وجه العدوان الإسرائيلي دفاعا عن الحصن الأول الذي تحصّن به هاشم، جد آل البيت، جد المسلمين، جد العرب أجمعين.
غزة اليوم إذا، ملتقى العرب والمسلمين جميعا، إرتقت قضيتها، إلى مرتبة القداسة، صارت مدينة مقدسة، مثل المدينة، مثل القدس، مثل كربلاء والنجف، مثل سائر المدن المقدسة. ولهذا صار يصعب تراجع المسلمين عنها، مهما أطالت إسرائيل الحرب عليها. فهي أعظم من الإستراتيجيا، وهي أعظم من حقول النفط والغاز، لأنها مدينة الفلسطينيين جميعا، مدينة العرب جميعا، مدينة المسلمين: العرب منهم والعجم.
دعوى الإبادة الجماعية في غزة اليوم، التي تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا، وتشرف المسلمون بها، إنما هي دعوى عالمية. خرجت غزة من جهادها الأصغر قبل السابع من أكتوبر، إلى جهادها الأكبر بعد السابع من أكتوبر. لم تعد تحارب عدوها وحسب، بل تحارب، إذ تحارب، دفاعا عن دورها، دفاعا عن وجودها. ولا يهمّ أهلها، إن طالت الحرب فيها أو قصرت، لأن حرب غزة، صارت حربا مقدّسة ضد الغزو الصهيوني لها.
غزة اليوم، أعظم قضية عالمية، كيفما نظرت لها القوى العالمية، فهم لا يستطيعون التبرؤ من دمها، فهم لا يستطيعون السكوت ولا حتى المساومة عليها، على إبادتها. صارت قضيتها، أمام نسيج العالم كله، أمام دول العالم كله. فيها توحّدت جميع جهات الأرض، فيها تفجّرت جميع ينابيع الإنسانية، هي بوابة سيناء التاريخية، هي بوابة صحراء النقب، هي مهد الحضارات التي إستوطنت فيها، هي مهد الحضارات التي عبرت منها، إلى سائر الأجبل، إلى سائر الدول، إلى سائر الأمم. هي معبر القوافل التجارية، والقوافل الدينية التي تؤمّها من آسيا ومن أفريقيا. ولهذا تعجز إسرائيل ومن يشدّ على يدها، مهما أوتيت وأوتوا من جبروت، ومن قوة، أن تسقطها، مهما وقف حماتها من خلفها ومن أمامها، ومهما دفعت تلك القوى العالمية أهل غزة إلى الموت، فإنها لا بد أن تظل واقفة على قدميها، لأنها حاضنة جميع الديانات المقدسة.
إسرائيل أكثر دول العالم، معرفة بتاريخ غزة، بأهمية دورها على المتوسط، بأهمية بنياناتها الإجتماعية والدينية، بأهمية الحضارات التي إنعقدت فيها على مرِّ العصور. وهي إذ تحمل عليها، حملة الإبادة الهمجية النكراء، لأنها وجدت فيها عقدتها التاريخية من التنوع والإنفتاح والتجدد والقدامة والحداثة. فإسرائيل اليوم تريد في غزة، إقامة المحرقة الإنسانية، إبادة الحياة البشرية، قبل إبادة الحجر، قبل إبادة الحياة العمرانية فيها.
عقدة إسرائيل في غزة اليوم، أن لا تسمح لها أن تكون مدينة أممية، أن تحطم فيها صورتها المقدسة التي نشأت لها، أن تشوّه منها تاريخها، أن تشوّه منها وجهها الشرقي، وجهها العربي، وجهها الإسلامي، وجهها المسيحي المشرقي، وجهها الأممي. فهي مدينة جميع من أمّها، من دخلها، ومن غادرها، من عرفها عن قُرب وعن بُعد، ومن قرأ عنها. ولهذا يرى العالم بأجمعه، حملة إسرائيل عليها، حملة إبادة جماعية، لأنها مدينة جميع أهل الأرض، ولهذا تريد إسرائيل نقضها، من خلال حربها اليوم عليها.
جعلت إسرائيل من غزة مدينة مقدّسة، ولهذا صارت أعظم منها. صارت عصيّة على الموت، على الإبادة الجماعية، ولو إجتمعت عليها جميع قوى الظلم، ولو إجتمع عليها العتاة والجبابرة، ولو إجتمع عليها، جميع الطغاة، فهي ستلفظ أعدائها جثثا، في الأنفاق، وفي الحارات وفي الزواريب، مثل بحرها.. لأن غزة، صارت بعد السابع من أكتوبر، مدينة مقدّسة.