بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 كانون الأول 2020 12:02ص قبسٌ من شهاب وطني... لعلّ العميان يُبصرون!

حجم الخط
إن تجارب القادة العظام في التاريخ تصبح إرثاً غنياً لشعوبهم ودولهم، ومنارةً يستهدون بها. ولأن العظام نادرون في العادة، ولا يتكررون سوى في مراحل زمنية متباعدة، رأيتني أفتّش في هذا الوقت العصيب الذي يمرّ به وطني عن قبس من ضوء وسط هذا النفق السياسي الممتدّ حتى ولو أتاني من الماضي. فلعل الذين عمت أبصارهم وقلوبهم عن الحاضر والمستقبل، يستطيعون أن يبصروا شيئاً من صور ماضٍ لا تزال ناصعةً في ألبوم الذاكرة الوطنية. هذه الغاية النبيلة قادتني إلى الرئيس فؤاد شهاب بفضل سيرته ومسيرته في قيادة لبنان علّنا نستفيد من دروسها في هذه المرحلة الخطيرة.

من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية جاء فؤاد شهاب. كان متواضعاً، خجولاً، عفوياً في حديثه وسلوكه. لا يميل إلى التعامل مع السياسيين أو الركون إلى ألاعيبهم ومناوراتهم الرخيصة. رفض الرئاسة في العام ١٩٥٢ بعد إزاحة بشارة الخوري رغم الالتفاف الشعبي حوله. لكن بعد حكم كميل شمعون وتدخّل مصر عبد الناصر الإيجابي في ثورة 1958 وموافقة الولايات المتحدة التي شعرت بالهزيمة آنذاك في لبنان على التسوية، قبل الرئيس شهاب مهمّة الرئاسة التي لم يرَ فيها يوما إلا وظيفةً لخدمة وطنه، فلم يتوانَ عن تقديم استقالته منها بعد سنتين من انتخابه عام ١٩٦٠؛ فاهتزّت مشاعر اللبنانيين وطالبوه بالرجوع عنها.

كان الرئيس شهاب من نوع الرجال الذين للكرامة عندهم معنى أكبر من نشوة السلطة. كان يتألم كثيراً ممن يشكك في وطنيته وإخلاصه لوطنه وحرصه على الوحدة الوطنية. ورغم الصلاحيات الواسعة التي كانت له طبقا لدستور ما قبل الطائف، لم يؤلف الحكومات وفقاً لمزاجه الشخصي ولم يأتِ بالسياسيين الضعفاء أو الطيّعين إلى الحكم. كان يحمل في تفكيره وفي وجدانه حلم بناء الدولة الحديثة من خلال إصلاح اجتماعي واقتصادي وتعزيز العدالة الاجتماعية والانماء المتوازن لكل لبنان. فاستقدم في سبيل ذلك بعثة ايرفد برئاسة الأب لوبريه صاحب المؤسسة الدولية الشهيرة لدراسة الأوضاع الاجتماعية في لبنان واقتراح حلول لها. ورسم جنرال لبنان سياسته وفق الثوابت التالية: المحافظة على الحرية الاقتصادية، سريّة المصارف، الحرية النقدية، تشجيع الاستيراد والتصدير وتنمية قطاعي السياحة والتجارة وحمايتها من اللصوص والفاسدين، إنشاء مؤسسات حكومية حديثة كالبنك المركزي ومجلس البحوث العلمية ومكتب الفاكهة ومؤسسات كثيرة أخرى كمجلس المشاريع الكبرى ومجلس مشاريع بيروت الكبرى، وإنشاء صندوق الضمان الاجتماعي والضمان الصحي واعتماد خطة خمسيه لتعميم الماء والكهرباء والطرقات في كل مناطق لبنان وتعزيز الجامعة اللبنانية وإنشاء مدارس مهنية وابتدائية وثانوية، كما أصدر قوانين عدة منها: قانون الاستملاك والبناء وحماية الشاطئ والنقد والتسليف ومجلس التخطيط ومؤسسات التفتيش والرقابة والمحاسبة. وكانت غايته في كل ذلك صهر الطوائف اللبنانية في بوتقة وطنية واحدة وتقوية ولائها للدولة وتجاوزها للولاءات الطوائفية.

أما في علاقاته العربية فقد اتبع الرئيس شهاب سياسة عربية واضحة وسليمة مع الدول الشقيقة، وأرسى تفاهماً عالياً مع الجمهورية المتحدة (مصر وسوريا) بقيادة الزعيم العربي جمال عبد الناصر. وكان يرى عن رؤية استراتيجية واعية وصادقة وليس عن تكتيكات مؤقتة ومصلحية أن خلافات الدول العربية في ما بينها خطأ جسيم، وخطر داهم على العرب وعلى لبنان خصوصاً، مؤمناً إيمانا راسخاً بأن دور لبنان هو محاولة توحيد الصف العربي وتقريب وجهات النظر بين دوله. وعن علاقاته بعبد الناصر القائمة على الثقة والاحترام المتبادلين قال الرئيس شهاب أن عبد الناصر كان يمدُّ لنا يد المعونة ولم يطلب من لبنان سوى إبعاده عن المحاور الدولية المعادية لحقوق العرب وأمانيهم. وقد نتج عن هذا التفاهم والانسجام بين الزعيمين لقاء تاريخي على الحدود اللبنانية - السورية أكد فيه ناصر لشهاب أنه لا يريد من لبنان تحالفا سياسيا موجّها ضد أي فريق أو أي دولة عربية، ولا تخلياً من لبنان الدولة عن صداقاته الدولية وانفتاحه على الغرب. بل أن كل ما يتمناه للبنان هو أن لا يدخل في سياسات معادية للعرب، مؤكدا حرصه الشديد على الوحدة الوطنية اللبنانية، فهي شيء هام وأساسي في حياة لبنان وكيانه واستقلاله، وأن الجمهورية المتحدة حريصة على هذه الوحدة والمحافظه عليها وتدعيمها ونجاح الرئيس شهاب في مهامه الوطنية.

أما لجهة تعامله مع الحالة الانقلابية وعناصرها من العسكريين والمدنيين اللبنانيين فقدّم نموذجاً غير مسبوق بين الدول؛ حيث رفض إعلان الأحكام العرفية أو إنشاء محاكم خاصة تقضي باعدام المتورطين بالانقلاب، بل تركها أمام المحكمة العسكرية العادية وقوانينها. واستغرقت المحاكمات أشهر عدة وليس سنوات. واستبدلت أحكام الإعدام بالسجن المؤبد، ولم يمكث المتورطون أكثر من ثمان سنوات بالسجن.

لقد تكرّست في عهد الرئيس شهاب الوحدة الوطنية بأجلى صورها. صار الحكم اللبناني هو الأقوى، والدولة اللبنانية ومؤسساتها هي الأعلى شأناً، والأجهزة الأمنية والعسكرية هي ملاذ الحماية الوحيدة للوطن وللمواطنين. عاش لبنان في العصر الشهابي حالة من الاستقرار والازدهار لم يعرفها لبنان طيلة تاريخه. وكان في ذلك رمز الرئيس القوي الحقيقي من دون أن يستبد بالحكم أو يقرّب إليه أحد أو يُبعد أحد. قوته كانت في زهده بالسلطة قبل أن تكون سطوراً في الدستور. وقوته كانت في تقوية الدولة وتغليب أمرها على الأحزاب وعلى الولاءات الطائفية والفئوية. قوته كانت في انسجام الأقوال مع الأفعال وفي حذره الدائم بل تشككه في نوايا الطبقة السياسية التقليدية. قوته كانت في أنّه أراد أن يترك البلد للأجيال الطالعة الباحثة عن دولة أمّ، دولة مؤسسات فاعلة، دولة تلّم أبناءها ولا تلملم أشلاءهم بانفجار إبليسي آثم، بكاه العالم أجمع ولم يرف للمسؤولين عنه جفن. قوته في أنه رحل حينما أراد له الجميع أن يظل، لأنه اطمئن بأن الشخص ليس هو القضية، وبأن النضال الوطني الحقيقي ليس إرثاً عائليا أو وجاهةً لأفراد صغار بين الناس. قوته في أنه ترك وراءه إنجازات مدنية ومؤسساتية لا تزال هي الوحيدة الصامدة فينا اليوم رغم كل محاولات الهدم والتدمير التي تعرّضت لها. قوته في أنه كان وطنيا بلا مكاسب شخصية، وعروبيا بلا شعارات كبيرة.

أعود إلى هذا القبس الذي يضيء في ذاكرتي اليوم فيما قلبي يئنّ على حال الوطن وما وصلنا إليه بسبب أنّ القوة انحرف مضمونها في النفوس، وساد الاستقواء بديلا عنها. وشتان ما بين الاثنين. ألم يكف هذا البلد استقواء العدو عليه واستقواء أبنائه عليه وعلى بعضهم البعض؟

كم بحاجة نحن اللبنانيين اليوم إلى فؤاد شهاب ثانٍ، وكم بحاجة عرب العصر إلى جمال عبد الناصر جديد. وليس هذا اليوم ببعيد!