9 كانون الثاني 2024 12:01ص كأس الخيبة

حجم الخط
تتجرّع إسرائيل اليوم وحدها، كأس غزة. خابت آمالها كلها، بعد قرابة الثلاثة أشهر، من الحرب عليها. لم تستطع أن تمكث على أرضها أكثر مما مكثت، ولم تعد تستطيع أن تطيل الحرب، أكثر مما أطالت. ولم تعد بين يديها أسلحة جديدة للتجريب، أكثر مما إستعملت. ولم يعد بين يديها من مخزون السلاح والمال، ما يمكن أن تعول عليه، لإطالة أمد الحرب فيها.
نفدت كل مخزونات إسرائيل في الحرب على غزة. تصدّع جيشها، أصاب جندها المسّ والجنون في حرب الزواريب، وفي حرب الحارات، وفي حرب الخنادق، وفي حرب الأنفاق، فقررت التراجع عن الاستمرار في حرب النفاق والإستعلاء، بأنها هي الأقوى. وإندفعت تداوي نفسها مما أصابها، في حرب لم تتعوّد عليها، ولم تكن لها جاهزية الحرب، الشبيهة بحرب غزة، فأوقفت آلتها الحربية، أوقفت محركاتها، أطفأتها وإستدارت إلى الوراء، ترجع القهقرى، وتجرّ ورائها أذيال الخيبة.
لا تتنازل إسرائيل عن كبريائها، ولا يتنازل قادتها عن ركوب رأسهم، في الحرب على الفلسطينيين، في الحرب على أهل غزة والقدس والضفة، في الحرب على فلسطين كلها. تعتقد أن ترسانتها الحربية لا تنفد، بسبب دعم حلفائها لها. لم تستفد من الحروب القائمة في دول الجوار الإقليمي، ولا في دول الجنوب الأميركي. ولا في دول آسيا وأفريقيا. ظنت أن الذهاب إلى حرب حماس في غزة، نزهة من النزهات التي اعتادت عليها، لم تدري أن وراء غزة ما ورائها، وأن الشعب الفلسطيني كله، وأن الشعب العربي كله، وأن العالم الحر كله، وأن العالم الإسلامي كله، أن أميركا نفسها، بل أن الفاتيكان نفسه، سيقف ضدها في مواجهة إبادتها لغزة.
غزة بلا ماء، بلا كهرباء، بلا خبز، بلا دواء.. هي الأقوى، تقف عارية وتهزم إسرائيل، تدفعها للتراجع في حملتها عليها، بعد تسعين يوما من حملات الإبادة ضدها، لأنها معجزة من المعجزات، لأنها تتمسّك بإيمانها بالبقاء قوية في وجه العتاة والطغاة، لأنها مؤمنة بمعجزتها، لأنها مؤمنة بإعجازها.
خابت إسرائيل في حارات غزة، في زواريبها، في خنادقها، في أنفاقها، في مدنها، لم تستطع أن تحقق غاياتها، لم تستطع أن تحقق أهدافها: إبادة جميع أهل غزة، إبادة جميع الفلسطينيين. لأنها كانت تواجه أهل المعجزة، لأنها كانت تواجه رجال المعجزة. ولهذا تراها تستدير، تأمر كتائبها الجرّارة المدججة، بالإستدارة، والعودة عن أسوار غزة، بالخروج من أنفاق غزة.
ترك قادتها الحمقى والأغبياء، كتائبهم في وسط المعركة، تخلّوا عنهم، فصارت عساكرها وحدها، تتجرّع كأس الخيبة.
أعراض الجنون، أعراض الهستيريا، أعراض الأمراض وجميع أنواع الأوبئة، تفتك اليوم بجند إسرائيل، فيرتدون عن أنفاق غزة، خائبين، تلاحقهم لعنة الخيبة.
لم يعرف قادة إسرائيل الحمقى والمجانين، بل ولا نتنياهو الأهوج، أن يربح الحرب على غزة. ولم يعرف أيضا وبالمماثل نفسه، أن يخسر الحرب على غزة. قاد هذا الرجل الأهوج الحرب على المدنيين، يريد في قرارة نفسه، أن يقتل جميع الفلسطينيين، أن يبيد جميع أهل غزة، لما أصاب عقله، فدفع سكان إسرائيل ثمن حمقه، ثمن هوجه، دفعت كتائبه المندفعة إلى غزة، ثمن قراره الأهوج، وصاروا جميعا إلى الهستيريا التي أصابتهم، جراء تجرّعهم كأس الخيبة.
علق الإسرائيليون في صنانير أهل غزة. علقوا في فخاخها. صارت حرب غزة عندهم، بلا معنى، وهذا ما زاد طينتهم بلّة. صاروا يدفعون ثمن غزوهم لها مرتين: مرة في حماقة غزوها. ومرة في خيبتهم عن تحقيق أهدافهم، من إبادة شعبها. خسروا العالم الذي كان يقف إلى جانبهم، لحماقتهم الكبرى، في حرب غير عادلة. وخسروا شعبهم الذي قادوه إلى معركة، هي في أساسها خاسرة، وباتوا «أندم من الكسعي»، حين حطموا أقواسهم كلها. تراهم اليوم يتجرّعون وحدهم: كأس الخيبة.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية