8 حزيران 2023 02:23م لبنان والسودان نموذجان لأزمات وجودية متناسلة

حجم الخط
باختصار، لبنان الحالي هو بقايا تركة الإستعمار الفرنسي الذي يسمّى تلطيفاً بـ "الإنتداب الفرنسي". بعيداً عن شخوص تلك المرحلة من الإفرنسيين واللبنانيين، وجُب القول أن النظام اللبناني الذي استولدته فرنسا وسلّمت بموجبه السلطة لنخبة تلك المرحلة، شبيه جداً، بالنظام الذي زرعه الإنكليز في السودان على يد النخبة التي شكلت جسر عبورهم لاحتلاله بعد القضاء على الدولة المهدية وقتل رئيسها الخليفة عبدالله التعايشي، لتفتح صفحة "السودان الانكليزي"، وقبله "السودان المصري" الذي انتهى باعلان البرلمان السوداني الانفصال عن مصر، وليسلّم الإنكليز الحكم للقبائل التي اشتركت معهم في القضاء على الدولة المهديّة.
منذ ذلك اليوم، يرزح السودان تحت حكم أقلية ثلاثة قبائل تتحكم بأكثر من 570 قبيلة، وتتناسل مآسي السودان حروباً، فقراً، وتهميشاً، في ظل تحكم أقلية قبلية وجغرافية وعددية، بأكثرية قبلية وجغرافية وعددية، حتى انقسم الى دولتين.. جمهورية السودان، ودولة جنوب السودان.
وبعد التقسيم الذي تمّ بحضور الجامعة العربية لم يشفى السودان من أمراضه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل تناسلت الأمراض أمراضاً تحولت مستعصية حتى انفجرت الحرب الحالية، وهذه المرّة ليست بين الدولة وحركات المعارضة المسلّحة، بل بين المؤسّستين العسكريتين الرسميتين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
نظام الحكم السوداني الذي زرعه الانكليز، حمل في جوفه تنامي أمراضه حتى يتمّ الاستثمار فيها وعليها في اللحظة الغربية المناسبة، والتي قد تتفتق العبقريات لتقول بأن الحلّ يكمن في تقسيم السودان المقسّم والى ثلاثة دول وضع الإنكليز تضاريس خرائطها التي ينقّحها الأمريكي حالياً، لتكون أكثر موائمة للتحوّلات الإستراتيجية في البحر الأحمر وجواره الإفريقي والآسيوي.
لبنان، شبيه بالسودان. الفارق البسيط هو في أسلوب عمل المستعمر. وكلنا يذكر ان مئوية لبنان الكبير منذ عامين شهدت احتفالات، وكتب الكثير من القصائد والمقالات والدراسات حول هذه المئوية، بهدف تخليق تاريخ عريق، لجغرافيا مخلّقة. ويكتنز التاريخ الطبيعي غير المخلّق والوثائق التاريخية، كيف استقطعت بعض الأراضي وتحديداً في البقاع وطرابلس ومعها سهل عكار من سوريا لتضم الى لبنان الكبير، حتى يرتقي لمرتبة دولة صُنعت وقتذاك لأجل المسيحيين والموارنة خاصة.
وفي كنف دولة لبنان الكبير، عاش اللبنانيون تمييزاً طائفياً، جعل رئاسة الدولة والمناصب السيادية الكبرى بيد المسيحيين، بل إنه جعل نسبة البرلمان اللبناني 55% للمسيحيين و44% للمسلمين. ما عكس تماماً تحكم أقلية طائفية وعددية وجغرافية، بأكثرية طائفية وعددية وجغرافية.
ثم انفجرت الحرب الأهلية، التي سبقها اهتزازات خطيرة في الخمسينات. وفي السبعينات تحوّلت فلسطين والفلسطينيين الى خلاف عامودي وطائفي مسلّح بين اللبنانيين. ما أدّى لانفراط عقد الدولة الطائفية بدءاً من الجيش اللبناني، وكان جيش لبنان العربي بقيادة احمد الخطيب مصدر تعبير كبير عن الاختلال ليس في تركيبة النظام الطائفي فحسب، وإنمّا مصدر خلاف جوهري حول لبنان وعلاقته بالعرب ودوره في القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الإسرائيلي.
ثم كان اتفاق الطائف، الذي حسم عروبة لبنان، وكرّس عُرف طائفية الرئاسات الثلاث، ونقل لبنان الى المناصفة في البرلمان وأيضاً في وظائف الفئة الأولى. لكنّ عوامل كثيرة فعلت فعلها في عدم تنفيذ الكثير من البنود الإصلاحية في إتفاق الطائف، الذي بات عاجزاً عن القيام بدوره، وليس أدلّ على ذلك سوى الشغور المتكرّر في رئاسة الجمهورية، كما وفي تشكيل الحكومات، فضلاً عن ارتفاع الأصوات المطالبة بحقوق المسيحيين التي لم تكن سوى الواجهة للسطو على الدولة ومؤسّساتها، لتتوّج بالسطو على ودائعهم المالية في المصارف المتوارثة مع القوانين المالية والدستورية من فرنسا،عندما كانت الأمّ الحنون للمسيحيين وليس للبنانيين. ولعلّه يقتضي الترحيب بمبعوث فرنسا الأم الحنون سابقاً، جان ايف لودريان، المبشّر والمحذّر من تفكّك لبنان وتحلّله ومن قبل وريثة ديفيد شينكر، باربارا ليف.
واليوم يشهد لبنان أزمة، يلفها انسداد واستعصاء سياسي كبير حول إعادة الحياة لجسد الدولة المتداعي، بفعل عدم انتخاب رئيس جديد تنقسم الكتل السياسية والطائفية حوله. التجاذبات العميقة التي تلفّ المشهد الرئاسي والسياسي اللبناني عامة، باتت أعمق بكثير من انتخاب رئيس جديد. تجاذبات تتعلّق باستحالة استمرار النظام القائم الذي انتهت صلاحياته أولاً باغتيال صمّام أمانه الأول رفيق الحريري، وثانياً باختلاف المسيحيين والموارنة خاصة حول الرئيس الجديد الذي قد يشعل حرباً شبيهة بحرب السودان.
ربّما اللحظة السياسية الراهنة لا تسمح بتظهير النقاش غير المضمر حول النظام السياسي. لكن تظهير النقاش وتجحيظه بات أمراً ملحاً وضرورياً حتى لا ينفجر البلد ويتمزّق إرباً طائفية، في ظل رؤوس تشحذ السيوف.
اللحظة الراهنة تقول بأن لبنان الكبير قد انتهى. وأنّ لبنان الطائف أيضاً انتهى. وتداعي المصارف والوضع المصرفي ومطاردة حاكم مصرف لبنان دولياً وبعض المصرفيين، تقول بأن وظيفة لبنان المصرفية بدورها انتهت.
اللحظة الراهنة تقول، بأنّه لم يعد للبنان مطلق وظيفة تبقيه على قيد الحياة بشكله الحالي، سيما بعدما بات للعرب مصحاتهم ومستشفياتهم، ومصارفهم، وزراعاتهم، واقتصاداتهم، وجامعاتهم، وفضائياتهم، وفضاءاتهم، وإعلامهم، وشواطئهم، ومنتجعاتهم، وحفلاتهم، ووسائل وأساليب ترفيههم الموطنة او المستوردة الخاصة بهم.
كل هذه الوظائف افتقدها لبنان. وبالتالي لا بدّ من البحث عن وظيفة جديدة تجدّد دوره. وظيفة، ينطلق البحث فيها من مؤتمر وطني تأسيسي جديد، ينطلق من إلغاء طائفية الرئاسات والوظائف كافة، ويُعمل مبدأ المداورة الشاملة والكاملة وليس الفدرلة او التقسيم، بحيث لا يكون مطلق موقع، (وآخرهم وزارة المالية) حكراً لمطلق مكون صغيراً كان أم كبيراً. إنّها المداورة التي تلغي الحاكم الصوري، وتشرّع الحاكم الحقيقي، كما إنّها تلغي مقولة أن حزب الله يعيّن وكيلاً له في رئاسة الجمهورية.
إنّ النظام اللاطائفي تجربة تفرض نفسها، ويبنغي الانخراط الايجابي فيها، سيّما بعدما خبرنا جيداً إختناقات ومآسي وويلات النظام الطائفي المتناسلة والماثلة أمام كل إستحقاق. إنّ النظام اللاطائفي هو النظام الذي سيصعّب على القوى الاقليمية والدولية الاستثمار في زرعه بالمفخّخات التي تنفجر وفق مقتضيات المصالح والإستراتيجيات والمحاور الخارجية.
ربما كان حافظ الأسد محقّاً عندما أبلغ المبعوث الأمريكي ريتشارد مورفي الذي خيّره بين "مخايل الضاهر أو الفوضى"، أنّ في لبنان مرشح آخر لرئاسة الجمهورية، اسمه، علي عقيل خليل.