بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الأول 2023 12:00ص لماذا تخربون بلادنا ومنتجعاتنا؟! لماذا تقطعون رؤوسنا؟!

حجم الخط
على مرِّ الأزمنة، كانت منتجعات لبنان وسوريا وفلسطين وسيناء، مقصد عشاق السياحة والسفر، طيلة العصور الوسطى والحديثة. فقد كانت أوروبا تغرق في مستنقعات الحروب الدامية، بين بيزنطية وروما، وبين إيران/ الفرس وبيزنطية/أوروبا، وبين المغرب الأقصى وأوروبا. وكانت جميع مرافئ تلك البلدان، لشد أزر الحروب بالسفن والبوارج والأساطيل الحربية، وكانت منتجعاتها على الساحل الغربي للمتوسط، وفي خلجانه الكثيرة، وفي جزر البحر المتوسط المتصلة به، إما ببرّه وإما بسفنه الحربية، وإما بالقواعد والقلاع والحصون التي كانت تنشأ فيه، تجعل من هذه المنتجعات البالغة الجمال، عرضة للهجمات الحربية، أو للقرصنة، أو لأعمال التخريب التي كان يقوم بها، المخربون من قطّاع الطرق وقطّاع السابلة، ومن شذاذ الآفاق في البلاد المجاورة للساحل الغربي للمتوسط، حيث كانوا يقعون في تلك المنتجعات الغربية، على الغنائم الكثيرة والثمينة.
كان الساحل الشرقي للمتوسط، هو قبلة أنظار تجار الدول الناشئة في أوروبا، وقبلة أنظار الحجاج إلى بيت المقدس. وكانت الدروب الساحلية، كما الدروب الداخلية في شرق المتوسط، عامرة بالرحلات وبالرحّالة، على مدار السنين، وعلى مدار فصول السنة. كانت منتجعات السواحل الغربية للمتوسط، قد خربتها الحروب، وأغرقتها بالدماء، كانت الدروب إليها غير آمنة، كانت الإعتداءات على الأغنياء والميسورين، تجعل من دروب أوروبا كلها، دروبا غير آمنة، وتجعل من منتجعاتها الجميلة، في الشطآن وفي الخلجان وفي المستنقعات، مصائد لشذاذ الآفاق وللقراصنة وللصوص وللإغارات الدائمة، ومستنقعات للدماء. ولهذا كان أهل أوروبا يتحولون إلى منتجعات السواحل الشرقية، لا طلبا للدفء وللشمس وحسب، على حد ما يقول المؤرخون، وإنما طلبا للعافية وللراحة وللأمان، على حد ما يقوله، علماء الأنتربولوجيا وعلم النفس الإجتماعي.
كانت المدن الساحلية في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وغزة وسيناء ومصر، عامرة بسبب الأمان الأهلي، والأمان الإجتماعي، والأمن الدولتي. وكانت العصور السياسية تختلف وتتعاقب من: أمويين وعباسيين وفاطميين وأيوبيين وصليبيين ومماليك وأتراك. غير أن المنتجعات السياحية، كما المنتجعات الأهلية، تظل محافظة على أمنها، وعلى هدوئها وعلى نشاطها. كان النشاط الإجتماعي، على سواحل البحر المتوسط الشرقية والشرقية الجنوبية، تحافظ على أعلى درجات الهدوء والأمن والراحة لرحلات الإستجمام، وللرحلات الدينية.
كانت المدن الساحلية في شرق المتوسط وفي جنوبه أيضا، مدنا عامرة، كانت مدنا حضارية، ترى قرب المنتجعات الأهلية، العمائر الدينية المتنوعة، لجميع الطوائف الإسلامية ولجميع طوائف أهل الكتاب بلا إستثناء. كانت المنائر الدينية، تكاد تتعانق، في مدن العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين وغزة وسيناء ومصر، فما يستطيع المرء أن يميّز بينها من بعيد. تراها معا في السرّاء والضرّاء. وتمنح المنتجعات الأهلية درجة عظيمة من الإطمئنان، وتشدّ إليها الرحّالة والرحلات، من أخماس وأسداس أوروبا والعالم القديم.
هذا هو الحال، في جميع منتجعات العالم العربي والإسلامي، من الأناضول حتى مراكش في المغرب الأقصى: يعمّها الهدوء والإطمئنان، ويقصدها أهل أوروبا للإنتجاع وطلب الراحة النفسية والسكينة الإجتماعية والدفء والشمس. يغتنون شبعا وريّا، من مال وثروة وثمار، دنيا الشرق الخصيب.
ونحن لا نقول ذلك، على سبيل الإنحياز. فنحن منحازون حتما للهدوء والسكينة والرفاه الإجتماعي. وقد تلمّسنا ذلك، أكثر ما تلمّسناه، في الكتب التي وضعها الرحّالة المسلمون والرحّالة المستشرقون على حد سواء. وقد عكس الرسامون والأدباء الغربيون الذي إنشدوا إلى مدن الشرق، كل هذة المعاني الهادئة وكل  ظلالها، في اللوحات وفي القصائد وفي كتب الرحلات. عكسها أيضا المصورون، الذين رافقوا الحملات العسكرية، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل وحتى أواسط القرن العشرين.
لم تؤثر الحربان العالميتان على سوق المنتجعات الساحلية، ولا على سوق المنتجعات الجبلية، في بلدات المصائف. ذكرها الشعراء وتغنّوا بها. ورقص المغنون والفنانون على مدرجاتها وأحيوا الحفلات العامرة: نذكر الحفلات التي كانت تقام في ساحات المدن اللبنانية الداخلية والساحلية، وفي جميع مدن العراق وسوريا، حتى الأردن وفلسطين وسيناء وغزة. إذ كانت هذه المنتجعات قبلة السواح الأجانب على وجه الخصوص. يهجرون بلادهم، ويهاجرون إلينا، طلبا للراحة والإستجمام، وطلبا للسياحة الدينية والاستجمامية على وجه العموم.
كنت أزور المستنقعات والبحيرات، البارحة، على شواطئ مونبلييه، وفي مدينة نيم، وكذلك في مدينة أفينيون. وكنت أقف، على نهضة هذه المنتجعات، في تلك التلال وفي تلك المستنقعات الهادئة اليوم، والتي كانت خربة في أثناء الحروب الأهلية في أوروبا، وكنت ألتفت في المرآة إلى منتجعات بلادنا في الشرق التي خربت، بعد ظهور الاعتداءات عليها، بعد أعمال التخريب التي طالتها، بعد أن نالت منها الحروب الدينية.
تحوّلت منتجعاتنا الزاهرة والمزدهرة، إلى مستنقعات. فلا تجد اليوم فيها أي أثر للحياة. فهي تشكو من هجرة السواح عنها. وهي تشكو من فقدان الأمن فيها. وهي إلى هذا وذاك، تشكو من الضعف المادي، الذي طالها بسبب الحروب الدائمة فيها وعليها وفي محيطها.
كسدت المنتجعات اللبنانية، وكذلك السورية والعراقية والأردنية والمصرية. وتحوّلت منتجعات فلسطين وغزة وسيناء والبحر الأحمر، إلى مستنقعات دماء، بل إلى بحار من الدماء. فما عاد يجرؤ أحد من الرحّالة أن يجوس أرضها.
غدرت الحروب الدينية والإستعمارية الحديثة اليوم، في فلسطين وغزة وسيناء، بالمنتجعات وأهلها. أغرقتها بالدماء. صارت الحروب الدينية تتداولها بإستمرار، فلا تعرف طريق العودة إلى الإزدهار والإستقرار.
تضرب اليوم الحروب الدينية والإستعمارية الحديثة، منتجعات أهل الشرق كلها، فتجعلهم يغلقون أبوابها، ويبيعون عفشها، ويتخلّون عنها، فتتحوّل حكما إلى مستنقعات ميتة، وإلى ديارات بلا زائرين ولا زيارات. وأكثر ما يدمى له القلب، وتبكي عليه العين، هو رؤية الدماء تغرق تلك الديارات وناسها.
منتجعات فلسطين والأردن وغزة ولبنان وسيناء وسوريا، هي اليوم تناشد أهل الغرب: أهكذا تفعلون بنا؟! ألا تذكرون الخبز والملح بيننا. ألا للمودّات مكان في قلوبكم، تجاه الشعوب التي آوتكم ورحبت بكم، وأفسحت لكم منتجعاتها؟!
فلماذا إذا أنتم اليوم تخربونها؟ لماذا إذا بأيديكم وبفؤوسكم وبأيدي عملائكم، تقطعون رزقنا، وتهدمون منتجعاتنا، وتقطعون رؤوسنا!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية