5 آذار 2024 12:01ص مجزرة الجوعى

حجم الخط
أقسى من مشاهد جموع الأطفال الجوعى، يمدّون بأيديهم وقصعاتهم، إلى المغرفة، هو أن ترى شتاتهم جثثا، حول حفرة، نزلت بهم، بصاروخ أو بقذيفة، من طائرة أو دبابة متربصة.
ما هذه القسوة الوحشية التي تركب رأسها، داخل العقول الإسرائيلية؟ ما هذه الوحشية التي لا توصف، إلّا بأنها بنت أبيها، الجالس على رأس الحكومة الإسرائيلية، بنت ذلك الوحش الهائج، الساعي ليله ونهاره إلى السلطة الجائعة؟!
نتنياهو لم يشبع بعد من الدماء. ما شبع من دماء غزة والضفة والقطاع. ما شبع من دماء القرى الذبيحة في الشمال والجنوب. ما إرتوى قلبه الذي أشرب بالوحش بعد، من دماء الأطفال والنساء والشيوخ. قرر مطاردة العصافير الجوعى، علقوا حول قضيب الدبق: خبزا وماء وسكرة ريقة. فأشعل في أجنحة الملائكة الصغار، نار المحرقة. رماهم بها، وتحلق مع جنده، يتفرجون على هول المجزرة.
أية لعنة أصابته، حقود الأتون، الذي يقذف من لسانه النار، كما في أفلام الرعب الحقيقي، فيلتهم بها، الفتيان والفتيات والصبية والأطفال الصغار، والنساء والشيوخ والعجزة.
ما هذا السكوت المريب من مجمع الذنوب في الدولة المرذولة، ودول الرذيلة حولها، تحدق بنار الوحش، تخرج من جوفه مثل السيل، تطوف على الأطفال الجوعى، تغرقهم بسديمها، نشف الدم في العروق، لم يعد في الفم بصاق، ليبصق على العالم، كل العالم، على الإنسانية جمعاء، وهي تصمّ أذنيها وتستر عينيها بكفّيها، حين هطلت الطائرات، بنيرانها، على فقراء، على أطفال، على شيوخ، على جوعى، بعد خمسة أشهر على حصار، على دمار غزة.
كيف يمضي ليله، عجوز البيت الأبيض، وقد تفتحت في بذلته البيضاء الرسمية، عيون الأطفال المحترقة؟ كيف سيذهب لملاقاة الجموع في ساحات الإنتخابات، في المدن والولايات، تحضره للرئاسة المقبلة؟ ماذا يقول لآرون بوشنيل: يضرم النار في أثوابه ويصيح في وجهه: فلسطين حرّة؟!
أمس، كان مشهد الشاشات مروّعا، إهتزت الأرض كلها: شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، لمرأى الأطفال الفلسطينيين، وهم يحترقون بالنار الإسرائيلية، بعدما كانوا يحترقون جوعا، بعدما كانوا يتضورون جوعا، حملت ألسنتها اللهب، على الأطفال اللعب...
لماذا وضع العالم، القار في أذنيه، وغرق كتمساح، ينشد النوم تحت الماء، بعيون مغلقة؟ لماذا إستكان قادة العالم الحر، قادة العالم المتنور، قادة الشمال والجنوب والشرق والغرب، للجريمة المروعة؟
مجزرة الجوعى، هي أعظم من مجزرة، في التاريخ القديم والحديث، هي أعظم من غارنيكا، هي حقا محرقة، هي إجتثاث بالنار للأجيال المقبلة، هي إبادة جماعية، هي إحالة دولة على محكمة، قبل أن تكون إحالة حاكم وفيلق وجيش وقائد وجنود، على محاكم الإبادة، على محاكم المجازر الجماعية، محاكم الأطفال، ترصدهم الإسرائيليون، جوعى رغيف، وعطشى قطرة ماء، تبلّ الجوف والحلق.
كيف للعالم أن ينام، وهو يرى أطفاله، في أتون المحرقة؟ حقل من السنابل الخضراء في غزة، تروي الدماء أنابيبها، تبعثرت جثثا محترقة، حول قصعات الطعام، حول الجفان الجائعة، حول الجفون الجائعة، كانت قبل قليل، يرقصها الجوع، كما الريح، حين تشتدّ بنارها على الزروع، أوان الهجير، أوان تشتد الشمس، أوان تكون الشمس محترقة.
لتخرس الأنظمة البائسة عندنا، لتخرس الأقلام، لتصمت المنابر السوداء.. لتغرق الهامات في ذلّها، حين يصير الطفل الفلسطيني، حين يصير يسوع الناصري، جثة محترقة.
دوار النابلسي، في شارع الرشيد، جنوب غربي غزة، يرصد وصول شاحنات المساعدات، يرصد وصول صفوف الأطفال الجياع، يلتهمون أنفاسهم، يتضورون، بينهم وبين الجوع، جفنة وقصعة. جوعى... يصوّب عليهم الوحش الإسرائيلي، تحت أنظار العالم، مدافعه، ويقصفهم قصفا، يطرحهم على الأرض، بنار القذائف، المحشوة حقدا وكراهية، وهم يصرخون: تمهلوا.. تمهلوا.. نحن جوعى، إقتلونا على شبع، على ري.. لا على جوع. نحن في أثمالنا، غرقى الدماء، غرقى الجوع. نحن غرقى حروبكم منذ كنتم. نحن غرقى...