بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 نيسان 2023 12:40ص من راشيا إلى الطائف إلى الانهيار الذي لا يُخرجنا منه إلا أمثال أتاتورك ومحمد علي الكبير

حجم الخط
كنت في سويسرا في عزّ الحرب الأهلية اللبنانية. وكنت في مهمة تحكيمية تجمع محامين وقضاة وكانت أخبار الحرب الأهلية اللبنانية تملأ الدنيا وتشغل العالم. قلت للزملاء السويسريين المجتمعين: كنا نُشَبِّه لبنان بسويسرا الشرق فهي مكوّنة من ثلاث قوميات: ألمانية، ايطالية وفرنسية، ومع ذلك أهلها متفهّمون وهي قد اجتازت الحرب العالمية الأولى والثانية بينما لبنان تُمزّقه الخلافات، فقاطعني القاضي السويسري الذي كان بين المجموعة بقوله: ومن قال لك ان السويسريين كانوا على وفاق؟ حتى وصلنا الى قناعة ومناعة، مرَرْنا بحروب أهلية أقسى من هذه التي تمزق كيانكم، استمرت حروبنا الأهلية ثلاثة قرون حتى وصلنا واقتنعنا واستوعبنا الكيان السويسري، وصار السويسري الألماني سويسرياً أولاً، والسويسري الإيطالي سويسرياً أولاً، والسويسري الفرنسي سويسرياً أولاً، لقد استغرق الأمر ثلاثة قرون حتى دخلت سويسرا الى قلوب وعقول السويسريين، وأنتم اللبنانيون، في الطريق، ولا تتعظون من تجارب الغير!
وعدت الى المؤرخين والى لبنان الكبير الذي أُعلن سنة 1920، لبنان الكبير كان صغيراً بالمتصرفية وكان أصغر قبل إعادة الأقضية الأربعة إليه (حاصبيا - راشيا - بعلبك والمعلقة) سنة 1920.
ولبنان ليس مجزّءاً بطبيعة تكوينه، ولكنه أخذ وقته في الحروب الأهلية - كما سويسرا - وكبر وصغر الى أن استقرّ بعد سلخ الوصاية التركية عنه واستقرار الإنتداب الفرنسي عليه سنة 1922.
وكان لبنان يعاني ما عانته سويسرا من تمزّق، وكبر وصغر الى أن استقر كبيراً سنة 1920 بإعلانه لبنان الكبير، تحت الإنتداب الفرنسي، ومن سنة 1922 الى سنة 1943 بقي هادئاً يوحي بأن رحلة العذاب قد انتهت ولكنه من سنة 1943 الى حين وُقِّعت اتفاقية القاهرة وخلال العشرين سنة من الإنتداب سلك طريقاً يمهّد للبنان الكبير ولبنان المؤمن أبناؤه به، ولم تكن القضية الفلسطينية قد وُجدت بعد لتجعله يتمزق ويعاني ويلات الحروب الأهلية بحكم الجارَيْن، الجار الذي يطمع فيه، سوريا، والجار الذي هو نقيضه ويريد إزالته من الوجود، إسرائيل، جارَيْن كانا وبالاً عليه، ولكنه لم يعرف استقراراً وتخميراً للوطن الكبير الذي يعيش مع أشقائه العرب بأمان وسلام، لم يعرف تخميراً وهدوءاً وسلاماً إلا خلال فترة الإنتداب من 1922 الى 1943، شهد عهد شارل دباس ثم عهد اميل إده، وكانت الحياة السياسية ديمقراطية عمّتها الحريات، ويقول المؤرخون أن شخصيات سياسية لبنانية كانت بدرجات متفاوتة على اتصال بالمشروع الصهيوني، بعضها إجراء حديث عابر في زمن كان أكثر براءة لمّا تتّضح فيه أخطار المشروع الصهيوني، وبعضها فيه قبض أموال وتآمر وخيانة، ولذلك لا يجوز اطلاق الإدانة بالمُطلق لكل الأسماء. ففي قائمة اللبنانيين الذين التقوا مندوبي الوكالة اليهودية أسماء معروفة أمثال تقيّ الدين الصّلح وزهير عسيران وعبد الرحمن الصلح وإلياس ربابي ومحمد علي حمادة والد مروان حمادة، واميل إده وابنه بيار إده والرئيس بشارة الخوري وفؤاد افرام البستاني والشيخ حسين حمادة وسعيد حمادة وصبري حمادة وأحمد الأسعد ونظيرة جنبلاط والدة كمال جنبلاط وإلياس حرفوش والرئيس رياض الصلح والمطران اغناطيوس مبارك والبطريرك أنطوان عريضة وسلّوم مكرزل وخير الدين الأحدب وتوفيق هاولو حيدر، وخالد شهاب وسليم علي سلام وصائب سلام ومحمد العبد الله وألفرد نقاش وسامي الصلح، وغيرهم. غير أن تواصل هؤلاء مع الوكالة اليهودية لم يكن على الوتيرة والعمق في العلاقة نفسهما.
ولكن الأجواء السياسية كانت بريئة متصالحة، على سبيل المثال اتُّفق على أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً وانتُخب الشيخ بشارة بهدوء وسلام، وفي الدورة التي كان التنافس فيها قوياً بين الشيخ بشارة واميل إده حصل ان الأكثرية النيابية الناخبة اتجهت لانتخاب مسلم ورجل مفتي رئيساً للجمهورية هو الشيخ محمد الجسر، فحلّ المفوض السامي الفرنسي مجلس النواب لأن باريس لا تتحمّل هذا الإتجاه. 
وسمّى اميل إده أول رئيس وزراء خير الدين الأحدب كأول رئيس وزراء مسلم، وكانت هي المرة الأولى التي يتسلم فيها مسلم رئاسة الوزارة في لبنان، وصادف أن الرئيس الماروني الذي استدعى هذا المسلم لاستلام الحكم هو الرئيس الإنعزالي الذي حاول دوماً أن يصبغ لبنان بصبغة مسيحية أكبر وأوسع من الصبغة التي هي له بالحقيقة! وكان هكذا اميل إده، هو الذي دشّن هذه التقاليد التي جعلت رئاسة الوزارة في لبنان بعد ذلك للمسلمين، يعدونها حقاً صريحاً لهم، ولا يجسر سياسي واحد - حتى ولا مكيافيلي لبنان الجديد - مساومتهم عليها.
وكان خير الدين الأحدب قد عاد من باريس حيث أنهى علومه وأسس مع رياض الصلح جريدة «العهد الجديد»، ولَمَع خير الدين الأحدب في رئاسة الوزراء وثبّت أقدامه في السراي وعرف كيف يتعامل مع المفوض السامي بدهاء ودبلوماسية فصار عند المفوض السامي أقوى من اميل إده ثم شكّل خير الدين الأحدب وزارة ثانية وعرف كيف يتعامل مع الشارع وجمع «القبضايات» وأخضعهم لسياسته واستقرّت الأوضاع السياسية وهدأت أيام حكم خير الدين الأحدب الى أن حصلت حادثة وإشكال نسائي اضطره للاستقالة وبقي في فرنسا حتى صفحت عنه زوجته أولغا مسلّم وكتبت له رسالة السماح فركب في اليوم التالي الباخرة لتعود به الى بيروت، ولكن سكتة قلبية فتكت به وهو ما يزال في الباخرة المتجهة الى بيروت.
وكان الزعماء الأربعة السّنّة الذين تواكبوا على رئاسة الوزارة بعد خير الدين الأحدب هم رياض الصلح ثم الأمير خالد شهاب والشيخ محمد الجسر مفتي طرابلس!
وجاء الاستقلال بدعم إنكليزي وضعف فرنسي وعزيمة لبنانية. اتجه اللبنانيون الى لبنانهم وتخلّى المسيحيون عن فرنسا وتخلّى المسلمون عن سوريا وكان لرياض الصلح والشيخ بشارة فضل كبير في إنجاز وتحقيق الاستقلال التاريخي، ولكن المشاكل والحروب عادت بعد الاستقلال لأن السياسيين كانوا من رجال الأعمال من الإقطاع!
فعهد الشيخ بشارة جدّد لنفسه خلافاً للدستور وزوّر الإنتخابات فسقط في الشارع وجاء بعده كميل شمعون الذي انتهى عهده بحروب أهلية، ولكن حدثاً تاريخياً حصل في العراق بإنقلاب دموي، أتى على العائلة المالكة وأعلن تأييده لجمال عبد الناصر، وكان عهد كميل شمعون في حرب مع عبد الناصر، فاهتزت المنطقة العربية من جرّاء هذا الانقلاب وخاصة أن الأسطول الأميركي نزل على شواطئ لبنان والجيش الإنكليزي نزل في الأردن.
ولكن السياسة الأميركية عادت فتصالحت مع عبد الناصر واتفق عبد الناصر وأميركا على انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وكان هذا الرئيس هو المثال الأعلى للسياسة في نزاهته وحرصه على تمتين كيان الوطن اللبناني، حتى أن العميد ريمون إده الذي اختلف معه على تدخّل العسكر في السياسة قال قبل وفاته: فؤاد شهاب هو الوطني اللبناني الأول الذي بنى لنا دولة وكيان!
ولكن بنهاية العهد الشهابي الثاني أي شارل حلو، إنتُخِب إلياس سركيس رئيساً وكان الجيش السوري في لبنان، فزاد التعصب والخلافات وصار النفوذ السوري هو الآمر، فأدّى ذلك عودة الحرب الأهلية والميليشيات، فتدخّلت المملكة العربية السعودية ودعت الزعماء اللبنانيين الى مؤتمر مصالحة في الطائف.
وقرر مؤتمر الطائف لتدعيم استقلال وتحرير الإنسان منه، قرر:
1- قانون انتخاب جديد عصري. 2- مجلس شيوخ. 3- استقلال القضاء. 4- الزواج المدني الإختياري. 5- هيئة إلغاء الطائفية. 6- تطبيق قانون الإثراء غير المشروع.
ولكن المخابرات السورية استطاعت أن تُبقي الميليشيات في سلطاتها وتخلع ثياب الميليشيات وتلبس ألبسة مدنية، فانفجر الوضع وتدهور الحكم والسلطة الى انهيار عنيف وصار البلد على كفّ عفريت وضُرب عرض الحائط باتفاق الطائف فصار الناس يترحمون على أيام الحرب.
فإلى أين؟..
الى أتاتورك الذي أنقذ تركيا، الى محمد علي الكبير الذي كجمال عبد الناصر أنقذ مصر، الى بطل تاريخي مثل بشير الجميل أو خير الدين الأحدب أو فؤاد شهاب أو ريمون إده.
هذا هو الحل الوحيد!