بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 نيسان 2024 12:27ص موت الشريط الحدودي

حجم الخط
«لا يعرف الشوق إلّا من يكابده/ ولا الصبابة إلّا من يعانيها»..
أمضيت في الستينيات، شوطا من عمري في شمال الليطاني، كنت أدرس هناك، وكانت جنائن الليمون وكروم الزيتون تملأ رئتي. كان شغفي بالشريط الحدودي يزداد، كلما زاد إقترابي من آخر خط يسمح لي بالوصول إليه. كنت أريد أن أعرف السر الذي يشدّني إلى قرى الشريط الحدودي، وإلى امتداداتها، وإلى خراجاتها، وإلى جبالها ووديانها وأحراجها، إن لجهة البحر، أو لجهة الجبل. كانت مراوح القلب تهتف، حين أرى أهالي القرى في الشريط الحدودي، يستيقظون باكرا، ويذهبون إلى جنائنهم وإلى كرومهم. وكانت الأحراج اللامعة بخضرتها، تحفّزني للنزول إلى أحضانها، إلى تلالها، وسماع أغاني الأطيار وثرثرات الينابيع وكركرة الجداول ولألأة البرك وقهقهة الأنهار.
وحينما احتلّ العدو الإسرائيلي الشريط الحدودي، كنت أشعر أن المحتلين، إنما داسوا على قلبي، داسوا على ذكرياتي، داسوا على كرامتي. وحين تحرّر الشريط الحدودي، وخرج منه جنود العدو بعديدهم وعتادهم، كنت أول الواصلين إليه، مع عائلتي، بسيارتي. كنت أقف على كل موقع أخلاه الأعداء الإسرائيليون، أهنّئه بالتحرير، وأبارك للأهالي حوله، بإستعادة بساتينهم وجنائنهم وكرومهم ودياراتهم وقراهم. كان الشريط الحدودي، ولا زال يملأ مني الكيان. ويملأ عيني بالفرح الوطني، الذي لا يشعر به، إلّا من كان يعيش بعيدا عن الشريط الحدودي.
يؤلمني جدا اليوم، الحال الذي وصل إليه الشريط الحدودي، ويؤلمني أكثر أهله وشعبه وناسه، الذين نزحوا عنه بقوة النار من العدو، لم يعد من كان له مرقد عنزة فيه، أن يبيت ليلته هناك، يخشى أن يطاله غدر العدو بمسيرة أو بقذيفة أو بصاروخ.
رحل عن الشريط الحدودي أهله، بعدما هدم العدو وأعدم، كل منزل هناك، يطلّ عليه، وكل منارة، وكل صومعة، وكل سنديانة وكل صنوبرة. بعدما أحرق العدو كروم العنب والتين والزيتون، بعدما أشعل في الغابات نيرانه، فأحرقها، وبعدما أصاب من المزارع مقتلها، وبعدما صارت جميع القرى في الشريط الحدودي هدفا يوميا يتسلّى بها، يصوّب على هذه الناحية أو تلك، يتدرب على الرماية الدقيقة، ويمتحن سلاحه الذكي، ويقدم الشهادات به، وكذلك التقارير، يبلّغها لأسياده، وكأنه صيّاد حريف حاذق، مهمته صيد الناس والدارات والطرقات والغابات والقرى الغافية تحت أعين الكواكب والنجوم.
ما يجري في الشريط الحدودي اليوم، محزن للغاية، لا يتحمّله ضمير إنساني، لا يتحمّله أي ضمير: كيف يعود الشريط الحدودي، إلى يد العدو كرّة أخرى؟ كيف إستدرج العدو مثل الدب، إلى كرومنا، إلى كرامتنا، إلى داراتنا، يحرقها كل يوم، يمشط كل دابة تسعى؟ ما هذا التجبّر على الناس في الشريط الحدودي، لم يقدم لهم شيء، تركوا لوحدهم في عراء الشريط الحدودي، بلا ملاجئ، بلا مؤونة، بلا أموال، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا محروقات.. يواجهون أرذل الأعداء. كيف يأذن لأهل الشريط الحدودي، فقط، أن يختاروا الموت، لا العيش، وإلّا النزوح القسري عن الشريط الحدودي طلبا للمال والماء والطعام؟!
موت الشريط الحدودي، شريط من القهر والعذاب لأخواننا الصامدين هناك، ولأخواننا النازحين في ديار الشتات، هو ماثل حقا اليوم في قلبي وفي كبدي وفي عيوني، كيف لا، وأنا أدرى بأهلي وبأحوالهم، وبليالي شيوخهم ونسائهم وأطفالهم، وبعذابهم اليومي، داخل القرى، وبعذابهم اليومي أيضا، خارج القرى. كيف لا أقول مرة ثانية، وقديما قال أهل الصوفة: «من يذقْ يرَ!».