بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 تشرين الأول 2023 12:00ص أحمد عجمي سار على طريق خطّها لنفسه

حجم الخط
تُشكّل مسيرة الراحل الحاج أحمد إبراهيم عجمي (92 عاماً) مدرسةً مُتكاملة، مُتعدّدة المحطات والظروف، استطاع فيها الشاب الجنوبي اليافع، أنْ يحفر في الصخر، ويغرس الأرض، ويُولي وجهه شطر الاغتراب ناحية القارّة السوداء، مُتحمِّلاً لهيب شمسها الحارّة.
في كل المحطات، كان الجنوب هاجسه، ومُبتغاه، واضعاً نصب عينيه، مُقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض، وإهمال الدولة لأبنائها ومناطقه، والتصدّي للإقطاع السياسي.
تعرّفتُ إلى الحاج أحمد عجمي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، التي مرّت بثلاث مراحل مُختلفة: قبل النيابة في العام 1992، خلالها، وبعدها، ولم يتغيّر في أيٍّ منها، فبقِيَ كما عرفتُهُ، وواكبته خلال أكثر من 3 عقود ونيّف من الزمن، تعاطى خلالها معي كواحدٍ من أبنائه، وأُبادله شعوراً بمثابة الأُبوّة والأُخوّة.
ابن العائلة الجنوبية الكادحة من بلدة العباسية - قضاء صور، تربّى في بيتٍ مُفعم بالإيمان والتقوى، واستمرَّ ذلك مُرافقاً لمسيرته، في مدرسة البلدة، ثم «الكليّة الجعفرية» في صور مع الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، طالباً وأستاذاً وناظراً، قبل أنْ يُغادر إلى أفريقيا، فكان في طليعة المُغتربين، الذين اضطلعوا بدورٍ فاعلٍ في إنماء لبنان، ورفده في أصعب الظروف وأحلكها، مُؤكداً أنّ المُغتربين، هم كنز لبنان الذي يدعم الاقتصاد في وطنهم، وعاد ليستثمر في بلده، ويُطلِق المشاريع.
تعرَّفَ إلى الإمام السيد موسى الصدر، وكان في عداد أفراد الحلقة الضيّقة المُقرّبة جداً من سماحته.
أحبَّ عمل الخير، فساهَمَ في بناء المساجد والحُسينيات، الكنائس، دور الأيتام، المدارس والكثير من المشاريع الخيرية.
كان في صلب العمل المُقاوم، بعد العدوان الإسرائيلي، وقام بنقل الأسلحة إلى المُقاومين، مُخبئاً إياها داخل سيارته، ومُحتضناً إياهم في دارته.
بادر، بعد تشكيل الرئيس رفيق الحريري حكومته الأولى في العام 1992، إلى عقد مُصالحة برعاية رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بين الرئيس الحريري والرئيس الدكتور سليم الحص، بحضور الرئيس رشيد الصلح، رئيس «الحزب التقدّمي الاشتراكي» آنذاك الوزير وليد جنبلاط، احتفاءً بالأمير زيد الأطرش (شقيق سلطان باشا الأطرش).
خلال مسيرته في المجلس النيابي، كانت له مواقف بارزة، وطرح مشاريع عدّة في المجلس النيابي، تحوّل اثنان منها إلى قوانين، هما:
- مشروع قانون للبناء 120م، وعلى طابقين، والذي عُرِفَ باسم «قانون أحمد عجمي»، وهو ما يُتيح البناء لذوي الدخل المحدود.
- مشروع البناء في العقارات غير الممسوحة، وذلك من خلال تأمين تواقيع 75% من مالكي العقار، حيث يحق عندها الحصول على ترخيصٍ للبناء.
أوْلَى الحاج أحمد عجمي قضايا المُزارعين، الصيّادين، المُواطنين وذوي الدخل المحدود، كُلَّ اهتمام.
كان الحاج أحمد عجمي مُحلّقاً في غير سرب الكثيرين، لأنّه التزم مُنذ البداية بالسير على الطريق التي خطّها لنفسه. آمن بالتعايش الإسلامي - المسيحي وعمل لأجله، أوْلَى كُلَّ اهتمام للقضية الفلسطينية، التي ناضل من أجلها في مجالات شتى.
كما كان للشعر والأدب في عالمه اهتماماً خاصاً، فألّف العديد من الكُتُب وكَتَبَ الكثير من المقالات، وكانت له إطلالاتٌ دائمة عبر صفحات «اللـواء»، خاصة «لـواء صيدا والجنوب».
خصّص قاعةً في دارته، حملت اسم «قاعة الإمام زين العابدين»، كانت منبراً لإحياء عاشوراء، بمُشاركة رجال دين مُسلمين ومسيحيين من مُختلف الطوائف.
الحاج أحمد عجمي، نموذجٌ يمتازُ بدماثة خُلُقه، علمه، ثقافته، سعة اطّلاعه، صفاء ذهنه، أناقته، طيب مُحيّاه وملقاه، حكمته وشهامته، تواضعه وكرمه، عطائه وتفانيه من أجل الآخرين، وإيمانه بالله عزّ وجلّ والرسول الأكرم وآل بيته، والتعايش بين العائلات الروحية في لبنان.
حفظ القرآن الكريم، وكان جليسه في قيام الليل والفجر، والصلوات، ساجداً وقائماً، مُلتزماً بتعاليم الدين السمحاء.
يشعُّ بريق الإيمان من عينيهِ، فامتاز بأنّه قارئ نهم، لا يغضبُ إلا لربّه ودينه وشرفه وكرامته وسيادة وطنه.
لم يسعفه قلبه في تحمّل ما حلَّ بوطنه لبنان، ولا المجازر التي يُواصل العدو الإسرائيلي ارتكابها بحق أبناء فلسطين.
لكن، كان كُلّه أمل بأنّ التحرير قادم لا محالة، حيثُ حقّق مُعظم أمنياته، وبقيت أمنية لديه، وهي أنْ يُصلّي في المسجد الأقصى مُحرَّراً من رجس الاحتلال الإسرائيلي.
يرحل الحاج أحمد عجمي، وقد ترك ما أوصى به الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، صدقةً جارية بعمل الخير، يُعطي ثماره، وعلماً يُنتفع به، من كُتبٍ قام بإصدارها أو شجّع على إبصارها النور، وولداً صالحاً، عبر ذريةٍ صالحة من العائلة الصغيرة، وأصدقاء ومحبّين يعملون وفق ما سار عليه.
وورِيَ جثمانه الثرى في جبّانة بلدة العباسية، التي كانت له فيها أيدٍ بيضاء، تشهد على عمله للخير.
هناك يغفو في جبل أبي ذر الغفاري، وهو الذي اختار تيّمناً به اسم «أبو ذر الجنوبي»، ويُولي وجه نحو فلسطين، الذي باركها الله سبحانه وتعالى وما حولها.