د. تاليا عراوي*
تعرَّف التجربة الإنسانية الحديثة بطريقة لا يجرؤ الكثيرون على الاعتراف بها: إنها قصة الخيار المأساوي الذي يدفعنا لاستبدال الجوهر بالوهم، وهذا ليس مجرد انحراف في الميزانية الشخصية، بل هو تنازل وجودي عميق حيث يُبادَل الجوهر الإنساني الأصيل الذي لا يُقدَّر بثمن، وبشكل فعّال، باللمعان الزائف للمشهد المادي والمُنتَج على نطاق واسع. تتفاقم هذه المأساة مع تضخم الديون والقروض، التي هي سيف ذو حدّين، تُقدَّم كسبيل للرفاهية لكنها تتحوّل إلى طوق يخنق البشرية، فإن سهولة الحصول على هذه الأموال تُغذِّي وباء ديون مُتفشّياً عالمياً، تتجذَّر علّته ليس في قصور السياسات الاقتصادية فحسب، بل في علّة اجتماعية خبيثة قوامها الهوس بالمظاهر الخارجية، وقناعة راسخة بأن القبول الاجتماعي قد أصبحا حقاً مشروطاً يُشترى بالمال، وأن ما يُمتلك ويُستعرض هو وحده تذكرة المرور للحصول على مكانة بين الناس.
هيمنة السطحية
لقد جرَّدت هيمنة السطحية هذه مفهومنا الحقيقي اللهوية بشكل أساسي. لقد كففنا عن إدراك أنفسنا، أو إدراك بعضنا البعض، كأرواح مُركَّبة في رحلة نمو؛ بل تحوَّلنا إلى مجرد كائنات للاستهلاك والحُكم في سوق عالمي لا يرحم.
إن القيمة الإنسانية الأصيلة - تلك القيمة الدائمة المُستمدة من الخُلُق، والفكر، والرحمة، والعُمق الروحي – لا تُهمل فحسب؛ بل يتم طمسها بفاعلية من خلال العلامات الظاهرة والمؤقتة للنجاح: السلع الفاخرة، أنماط الحياة المُترفة، والشخصيات الرقمية المُنظَّمة بعناية.
هذا النظام المُشوَّه يمزِّق نسيج التواصل الإنساني ذاته؛ إذ يتحوَّل الآخرون إلى مجرد مقاييس تنافسية تُشعل دورة قلق مُستمر من الحسد والمُفاخرة، وتُقيَّم العلاقات كمعاملات وحشية بناءً على ما يمتلكه المرء فحسب. هذا التنافس يجبر الفرد على تَسْليع الذات وإنشاء علامة تجارية تتطلب ترقيات باهظة وعرضاً أدائياً مستمراً للحفاظ على قيمتها الهشَّة.
هذا الدافع الذي لا يلين - لكي تكون مرئياً وجديداً ومُستهلكاً على الدوام – يحبس الروح في رغبة لا تنتهي ولا تُشبَع. وتُدفَع التكلفة النهائية لهذا الوجود الزائف في ديون ذات فوائد عالية، تُحوِّل الطاقة الحيوية بعيداً عن السلام الروحي نحو صيانة حياة مُلفَّقة، لتترك الروح مُستعبَدة بعمق، ومُثقَلة بالتوتر والخجل والخوف من الانكشاف المالي.
مقاصد الشريعة
يُقدِّم تعليم الإسلام سرداً مُضاداً واضحاً لهذا التنويم المغناطيسي الاستهلاكي، إذ يرفع قضايا الديون والقيمة الحقيقية إلى مستوى من الجدّية الروحية المطلقة. يُنشِئ الدين حدّاً أخلاقياً وأُخروياً بتوجيه الخيارات عبر المقاصد الثلاثة للحاجات الإنسانية (مقاصد الشريعة)، التي تعمل كمرشِّح حاسم ضد إغراء الاقتراض لأجل المظاهر، مُحذِّراً من الانبهار بما في أيدي الآخرين كما جاء في قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.
الأساس هو الضروريات لحفظ الحياة (كالطعام والمأوى)، حيث الاقتراض مباح لحفظ كرامة الشخص ووجوده، وتليها الحاجيّات لرفع المشقة وتيسير الأمور الضرورية (كالسيارة المعتدلة)، والاقتراض هنا مسموح بحذر وخطة سداد. أما منطقة الخطر الحرجة فتكمن في التحسينات أو الكماليات التي تدفعها روح المظاهر والرغبة في المكانة. إن الاقتراض لهذه الكماليات هو الكارثة الروحية بعينها، ويُنظر إليه كعمل من الغفلة والتّهوُّر حيث يُخاطر المرء بسلام الروح لإرضاء الحُكم السطحي. يستخدم الفرد الدَّين، غالباً مُضاعفاً بـ الربا (الفائدة) الذي يُحذِّر منه القرآن {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة (278)] لمُلاحقة وهم النجاح.
هنا يصبح الالتزام المالي عبئاً أخلاقياً عميقاً يرتبط مباشرة بمصير المؤمن في الآخرة. لقد أصدر النبي محمد (صلى االله عليه وسلم) تحذيراً مُقلقاً بأن نفس المؤمن مُعلَّقة بدينه حتى يُقضى عنه، ما يعني أن قدرة الروح على التحرر والوصول إلى الثواب مرهونة بالوفاء بحقوق الدائن. هذه الأولوية قصوى لدرجة أن حتى شعيرة الحج العظيمة لا تُسقط الدين، بل يظل حق العباد قائماً. ولهذا، رفض النبي صلى االله عليه وسلم أن يؤمَّ صلاة الجنازة على مدين حتى سُدِّد دينه، مُشدِّداً على الأولوية المطلقة لهذا الالتزام الدنيوي. وعلاوة على ذلك، فإن أعمق خطر روحي للديون هو قوتها على إفساد الخُلُق؛ حيث يكشف دعاء النبي صلى االله عليه وسلم بالاستعاذة من المغرم (الدين الثقيل) عن أن الرجل إذا غَرِم حدَّث فكذَب، ووعَد فأخلَف. هذا الضغط المالي المستمر يدفع الفرد إلى الكذب ونكث الوعود، مما يجعل الدَّين جذراً أساسياً لخطايا كبرى أخرى تُفتت الثقة المجتمعية.
غياب القناعة
إن التحدّي الذي يواجه الإنسان المعاصر لا يكمن في مجرد إدارة الأموال، بل في استعادة الروح من قبضة المظاهر المُستعبِدة والقبول الاجتماعي المشروط بالثروة، ففي الوقت الذي تدفع فيه ثقافة الاستهلاك الفرد إلى سجن لا ينتهي من الديون ذات الفوائد الباهظة، يُقدِّم لنا المنهج الإسلامي بوصلة التحرر الأعمق، إنه يُؤكِّد أن قيمة المرء وكرامته لا تُقاسان بلمعان ما يملكه، بل بنور الإيمان، وصدق النية، والالتزام الأخلاقي الذي يُثمر طمأنينة لا تشتريها الأموال.
إن البديل المُحرِّر لطغيان الحاجات الزائفة يكمن في التزكية الروحية، التي تُرشِّد القناعة لتكون كنزاً لا يفنى، وتُترجَم عبر فريضة الزكاة إلى اقتصاد حقيقي يقوم على الرحمة، والعدالة الاجتماعية، والشعور بالمسؤولية المُتبادلة. لن نجد السلام الروحي والاطمئنان الذي تتوق إليه النفس إلّا عندما نتحرر من الخوف المُذل من عدم الكفاية الاجتماعي، مُوجّهين طاقاتنا ومواردنا نحو الجوهر الدائم للحياة.
إن الدعوة ليست إلى الزهد في الدنيا، بل إلى القناعة حيث راحة النفس والسكينة التي تفوق كل ثمن.. إن الإثراء الحقيقي لا يقاس بفيض المظهر الخارجي، بل بكمال الاكتفاء الذاتي والتحقق من القيمة الباطنة؛ فالنفس لا تستضيء من ظل الثروة، بل تشرق من نور اليقين. وكما قال رسول الله صلى االله عليه وسلم: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ».
* كاتبة واخصائية في الأخلاقيات وناشطة في مجال حقوق الإنسان