بين المحبة التي تهبّ كريح سماوية، والشر الذي يتسلل كسمّ بطيء، والغواية التي تتلوّن كلحظة ضعف خفيّة... هناك اسم واحد استطاع أن يحتضن كل تلك المتناقضات ببراعة خارقة: هالة صدقي. تلك الفنانة التي لا تكترث بالألقاب، ولا تتعكّز على أرشيفها الطويل، لأنها ببساطة، تعيد خلق نفسها في كل عمل كما لو كانت تظهر للمرة الأولى. في حديث خاص معها قالت لي: «طبعاً كان من الصعوبة جداً الخروج من نجاح صفصف وقررت التوقف لمدة عام حفاظاً على نجاح شخصية صفصف، لأن كل ما عُرض عليّ بعد ذلك كان شبيهاً لها، وكان من الضروري أن أتوقف وأقدّم شخصية مختلفة تماماً، حتى لو لم شخصية شادية كانت مختلفة تماماً، وربما لم تلقَ نجاحاً مثل شخصية صفصف، إلّا أنها أضافت لسجلي نجاحاً آخر وقدّمت دور الشريرة بشكل مختلف، وهذا هو النجاح. أما بالنسبة لشخصيتي في «قهوة المحطة» فهي مختلفة أيضاً تماماً، لأنه موضوع مختلف وللكاتب الكبير عبد الرحيم كمال. وقد لفت نظري كمّ التهاني لهذه الشخصية رغم أنها كانت دور ضيف شرف».
هالة صدقي لم تكن يوماً ممثلة تؤدّي ما يُكتب لها، بل كانت حارسة نصوص، ومنقّبة عن الروح، ومهندسة للشخصيات التي تصوغها من الداخل إلى الخارج. وفي السنوات الأخيرة، قدّمت لنا ثلاثية درامية تستحق أن تُدرَّس في معاهد التمثيل، لأنها جمعت بين أكثر الشخصيات تطرفاً في الاتجاه النفسي والمعنوي، هي حالة فنية لا تخضع لأي معايير رائجة. ليست فنانة تُراهن على حضورها، بل على قدرتها النادرة في أن تُفكّك أعماق الشخصيات، وتُعيد تركيبها لتُشبهنا جميعاً - في ضعفنا وقوتنا، في إيماننا وخطايانا. وأثبتت أنها قادرة على أن تُشعل مشاعرنا مهما اختلف اللون الدرامي. فماذا عن جورجيت... الطهر الذي لا يحتاج إلى خطبة؟
في مسلسل «قهوة المحطة»، أطلّت علينا بدور جورجيت، السيدة المسيحية الطيبة، التي تعيش الإيمان لا كشكل، بل كحياة. ليست متديّنة بالمعنى الظاهري، ولا تتشدق بالمواعظ، بل تُجسّد جوهر المسيحية الحقيقي: المحبة، التسامح، الاحتواء. سيدة تنتمي للإيمان المسيحي، تؤمن بأن الله محبة، وتعيش المحبة بكل تفاصيلها. شخصية شفافة، مليئة بالتسامح والطيبة، تحتضن الآخرين كما لو كانوا أبنائها. لم تُلقِ موعظة، لكنها كانت الموعظة ذاتها. هالة صدقي، بصوت خفيض، ونظرة حانية، جسّدت قِمّة الفضيلة الأنثوية النقيّة.
عمل آخر، يختلف كلياً في طبيعته وسياقه: مسلسل «إش إش»، حيث تتحرك هالة صدقي في عالم الراقصات والليل والمراوغة، لتلعب دوراً جريئاً يطفح بالغواية الاجتماعية والنفسية. هنا، لا نجد طهارة جورجيت، بل امرأة مسكونة بالتجربة، أنثى تعرّضت لما يكفي من الصدمات لتصبح متوحشة بلطف، صلبة بإغواء، مرنة بحذر. شخصيتها لا تبوح بكل شيء، لكنها تُخيف بالصمت، وتغري بالابتسامة، وتخدع بالنبرة. كان تحدّي هالة صدقي هنا ليس فقط في تقديم شخصية من عالم الراقصات، بل في تقديم المرأة التي اختارت الاستيلاء على أموال راقصة كوسيلة حياة بعد أن أُغلقت في وجهها النوافذ. لم تسقط في فخ النمطية، ولم تضحكنا بتقليدية، بل عرّت هذا العالم بذكاء، وطرّزت الشخصية بتفاصيل نفسية دقيقة. فماذا عن صفصف عندما يتحوّل الشر إلى سلاح للنجاة؟
وفي قمة نضجها الفني، جاءت هالة بدور صفصف، الأم السلطوية، المسيطرة، التي تجسّدت في مسلسل «جعفر العمدة»، إلى جانب محمد رمضان، لتجعل من شخصية الأم شيئاً مختلفاً تماماً عما اعتدناه. صفصف ليست أمّاً حنوناً ولا طيبة، بل سيدة تعرف جيداً كيف تلعب بالقلوب والعقول، كيف تزرع الشك وتُغذّي الكراهية دون أن ترفع صوتها. إنها تُجيد فن التحكّم... ذلك الشر الذي يتسلل في العائلة من تحت ستار الحب، ويتغذّى على الضعف والاحتياج. ولأن هالة صدقي لا تُحب التهويل، لم تُحوّل صفصف إلى كائن كاريكاتوري. بل زرعت فيها منطقاً داخلياً حادّاً: الشر من أجل البقاء، التسلّط من أجل الحماية، القسوة من أجل فرض الوجود. شخصية شائكة، مستفزّة، لكنها متقنة حد الذهول.
ما يجمع جورجيت، وصفصف، وشادية، هو الصدق. هالة صدقي لا تؤدّي الأدوار، بل تحلّ فيها. تتحوّل، وتتلوّن، وتغوص في جوهر كل شخصية، دون أن تفقد اتزانها. تدهشنا بقوة حضورها، وبالأهم: تُجبرنا على التفكير. إنها فنانة لا تقف عند جمال الشكل، ولا تسعى وراء البطولة المطلقة، بل تعرف أن المجد الحقيقي يأتي حين يصدّقك المشاهد... ويخافك، أو يحبك، أو يبكي معك.
هالة صدقي اختبرت القسوة المطلقة، لكنها لم تجعلها كاريكاتوراً، بل أنثى حقيقية، مأزومة، متمرّسة في فن التلاعب والهيمنة. لم تحتج إلى قبح شكلي لتُقنعنا بالشر، بل استخدمت أداة واحدة فقط: الصدق. في وقت يتشابه فيه الجميع، تبقى هالة صدقي مختلفة. لأنها تعرف أن الفن ليس استعراضاً، بل موقف. ليس تكراراً، بل بحث دائم عن الإنسان في كل شخصية. كما أنها ليست مجرد اسم فني كبير، بل بوصلة تمثيل نادرة، تشير دوماً إلى الإبداع المتقن، والصدق الداخلي، والقدرة على التلوّن دون تلوث. بين جورجيت، وشادية، وصفصف... نحن أمام ثلاث مدارس درامية، صاغتها امرأة واحدة، بإيمان واحد: أن الفن الحقيقي لا يُمثَّل، بل يُعاش.