بيروت - لبنان

اخر الأخبار

10 أيار 2025 12:10ص من فؤاد شهاب إلى جوزاف عون: هل تعيد دولة المؤسسات إنقاذ لبنان؟

حجم الخط
‎يمرُّ لبنان اليوم بأزمة هي الأشدّ في تاريخه الحديث: أزمة اقتصادية خانقة، وانهيار في العملة، وتفكك في الحياة السياسية، وتحدّيات أمنية مستمرة. في خضم هذه الظروف، يجد الرئيس جوزاف عون نفسه أمام فرصة تاريخية، ربما تشبه ما مرَّ به الرئيس الراحل فؤاد شهاب في ستينيات القرن الماضي، حيث كان لبنان على حافة الهاوية قبل أن ينجح في بناء دولة حديثة. هذه المقارنة تطرح سؤالاً محورياً: هل يمكن لعهد جوزاف عون أن يستلهم من تجربة فؤاد شهاب، وأن يجد في الدعم العربي والدولي مخرجاً من الأزمة الراهنة؟
‎تولّى فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية اللبنانية عام 1958، في أعقاب أزمة سياسية وعسكرية كادت أن تعصف بالدولة. كانت الأزمة آنذاك تعكس صراعاً داخلياً بين تيارات سياسية متنافسة، إضافة إلى تداعيات الحرب الباردة على المنطقة. في هذا السياق، أظهر شهاب قدرة استثنائية على استيعاب التحديات الداخلية والخارجية، وبنى سياسته على مبدأين أساسيين: الحياد الإيجابي، وبناء دولة المؤسسات.
‎على الصعيد العربي، سعى شهاب إلى توطيد العلاقات مع الدول العربية الكبرى، وخاصة مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر. كان لقائه الشهير مع عبد الناصر على الحدود السورية - اللبنانية علامة فارقة في تعزيز التضامن العربي، وأسهم ذلك في ترسيخ الاستقرار الداخلي. كما حرص على عدم الانحياز إلى أي طرف في الصراعات الإقليمية، ما أكسبه احتراماً واسعاً في المحيط العربي.
‎أما على الصعيد الدولي، فقد حافظ شهاب على علاقات متوازنة مع فرنسا والولايات المتحدة، واستفاد من الدعم الفرنسي في إعادة بناء المؤسسات والبنية التحتية. كان التركيز واضحاً على إصلاح الإدارة العامة، وتطوير التعليم والصحة، وتوزيع التنمية بشكل عادل بين المناطق اللبنانية. هذا النهج جعل من عهد شهاب مرحلة تأسيسية في تاريخ لبنان الحديث، حيث تم بناء دولة حديثة قائمة على المؤسسات والقانون.
‎اليوم، يواجه جوزاف عون تحديات لا تقلّ خطورة عن تلك التي واجهها شهاب. الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان تهدّد كل مناحي الحياة، وتفاقمها التداعيات السياسية والأمنية. ومع ذلك، يبدو أن هناك فرصة حقيقية للخروج من هذه الأزمة، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والدعم الخارجي الكافي.
‎على المستوى العربي، هناك دعوات متزايدة من دول الخليج، وخاصة السعودية، لدعم لبنان شريطة تنفيذ إصلاحات حقيقية في المجالات الاقتصادية والسياسية. هذا الدعم، وإن كان مشروطاً، إلّا أنه يعكس اهتماماً عربياً بإعادة استقرار لبنان، وعدم تركه فريسة للصراعات الإقليمية. من جهة أخرى، هناك ضغوط دولية، وخاصة من فرنسا والولايات المتحدة، لتنفيذ إصلاحات مالية وقضائية، ومكافحة الفساد، وضبط الأسلحة غير الشرعية.
‎في هذا السياق، يمكن لعون أن يستلهم من تجربة شهاب في بناء دولة المؤسسات، وتحقيق التوازن بين القوى الداخلية والخارجية. فكما حرص شهاب على الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إلى أي طرف، يمكن لعون أن يبني سياسة خارجية متوازنة، تحافظ على مصالح لبنان دون الوقوع في فخ الصراعات الإقليمية.
مقارنة بين العهدين: التشابه والاختلاف

‎على الرغم من الفارق الزمني بين العهدين، إلّا أن هناك نقاط تشابه واختلاف جوهرية:
• التشابه: كل من شهاب وعون واجها أزمات داخلية وخارجية حادة، واعتمدا على الدعم العربي والدولي لإعادة بناء الدولة. كما ركّز كل منهما على دور الجيش والمؤسسات في حفظ الاستقرار، وسعى إلى تحقيق التوازن في العلاقات الخارجية.
• الاختلاف: أزمة لبنان اليوم أشدّ تعقيداً، حيث تتداخل فيها العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية مع صراعات إقليمية أوسع، خاصة مع النفوذ الإيراني وتداعيات الأزمة السورية. كما أن الدعم الخارجي اليوم أصبح مشروطاً بإصلاحات ملموسة، بينما كان في عهد شهاب أكثر مرونة وتركيزاً على بناء المؤسسات.
‎تجربة فؤاد شهاب تقدّم نموذجاً ناجحاً للبنان في كيفية الخروج من الأزمات عبر بناء دولة المؤسسات، وتحقيق التوازن في العلاقات الخارجية. أما جوزاف عون، فلديه اليوم فرصة تاريخية لإعادة بناء لبنان، وله أن يستلهم من هذه التجربة، وأن يوظف الدعم العربي والدولي في خدمة الإصلاحات الحقيقية. نجاح لبنان في الخروج من أزمته الراهنة لن يتحقق إلّا عبر توافق داخلي واسع، وإصلاحات جذرية، ودعم خارجي مستدام. هذا هو الدرس الأهم الذي يقدمه التاريخ للبنان اليوم.
‎في النهاية، يبقى لبنان قادراً على تجاوز أزماته إذا ما توفرت الإرادة السياسية، واستلهم من تجارب الماضي، ووظف الدعم العربي والدولي في خدمة مستقبل أفضل لأبنائه.

* محامٍ – دكتوراه في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية