بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آب 2022 12:02م هيئة إنماء الشمال: أمام تحدي التجارب الفاشلة

فرصة ميقاتي للتعويض عن التقصير ودبوسي مفتاح التعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والدولي

حجم الخط

لا يمكن لأيّ إعلامي أو مراقب أو مواطن أن ينظر بعين الثقة إلى أي قرار أو مبادرة تقوم بها السلطة الحاكمة، فعين الشكّ والريبة هي المسيطرة بعد وصولنا إلى الجحيم الرئاسي ودخولنا العصفورية على الأنغام الحكومية، لذلك فإنّ تقييم إنشاء هيئة إنماء لطرابلس والشمال يأتي في شقين:

ــ الأول: الحذر والبحث عن خلفيات هذا القرار ومدى جديتها وشفافيتها.

ــ الثاني: أنّه لا يمكن من حيث المبدأ الاعتراض على قرار أو اتجاه للعمل التنموي، لكن يجب ضبطه بعناصر الشفافية والاستجابة لحاجات المجتمع.

الاجتماع الأول

إنعقد يوم الثلاثاء الثاني من آب 2022 الاجتماعي الأول لفريق إنماء الشمال في السراي الحكومي برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي وحضور نائب رئيس الفريق السيد توفيق دبوسي والأعضاء، ونقل المشاركون أنّ أجواء الاجتماع كانت إيجابية وسادها الإجماع على أهمية وضرورة العمل لوضع رؤية لإدارة الأزمة وتأمين فرص استنقاذ طرابلس الكبرى من براثن الأزمات التي تحاصرها في مختلف المجالات.

رأى الرئيس ميقاتي أنّ هذه الهيئة قادرة على القيام بعمل إنمائي كبير في الشمال وسيكون لها علاقات مع جميع الوزارات والهئيات الدولية، ومظلتها هي غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال، داعياً إلى انعقاد الاجتماعات في الغرفة برئاسة الرئيس دبوسي الذي يتولى رئاسة الهيئة في غياب رئيس الحكومة.

ركزت مداخلة دبوسي على اعتماد سياسة إنجاز المشاريع الممكنة التنفيذ وهي موجودة وتحتاج إلى متابعة وبعضها لا يحتاج إلى تمويل بل إلى قرار سياسي وحكمة وصرامة في الإدارة العامة، مثل سوق الخضار الحديث على سبيل المثال، داعياً في الوقت نفسه إلى المبادرة للمساهمة إيجابياً في حلّ أزمة بلدية طرابلس لتتمكن الهيئة من التعاون معها لأنه لا يمكن الوصول إلى إنجازات تنموية في غياب البلدية.

شملت المداخلات أوضاع الشمال وعكار عموماً، وتناول البحث شراء التفاح من جرود الشمال لصالح التبادل مع العراق مقابل النفط الذي يتزود به لبنان، كأحد البنود التي يجب العمل عليها سريعاً.

جرى الاتفاق على أن يكون الاجتماع التالي يوم الخميس المقبل في غرفة طرابلس ليكون عمل الهيئة قد انطلق بشكل فعلي.

قراءة في تجارب التنمية مع ميقاتي

بتاريخ 21 تموز 2014 أعلن الرئيس نجيب ميقاتي إنشاء صندوق استثماري خاص بطرابلس بقيمة 25 مليون دولار تحت اسم "ثمار طرابلس" معدّ للاستثماء في ايّ مشروع تنموي للمدينة.

وفي 19 أيلول 2015 أعلن ميقاتي تأسيس شركة "نور الفيحاء" لتأمين الطاقة الكهربائية لطرابلس.

ليس هناك داعٍ لتوضيح أنّ كلا المشروعين لم يبصرا النور وأنّ الثمار بقيت حصرماً ولم ترَ طرابلس شيئاً من التنمية حتى وصل حالها إلى واقعها الراهن الذي يعتبر وصمة عار على كلّ من تولى المسؤولية فيها محلياً وعلى المستوى المركزي.

تجربة جديدة وعلامات استفهام كبرى

اليوم يأتي الرئيس ميقاتي بهيئة جديدة تشكلت "بناءً على قرار مجلس الوزراء في 23-5-2022"، وجاء في مبرّرات إنشائها أنّه "بناءً على الحاجة الماسّة لمعالجة مشاكل الشمال الإنمائية، تقرّر تشكيل فريق عمل لمعالجة المسائل الإنمائية في منطقة الشمال برئاسة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي وفي حال غيابه ينوب عنه السيد توفيق دبوسي وعضوية كل من السادة: عامر فضل الله، جوزف اسحق، حسن الحاج، مصطفى اغا، جورج عبود، بيار الدويهي، مارسيلينو حرك".

ونصَّ القرار على أن تكون مهمة هذا الفريق "وضع رؤية شاملة لتنمية منطقة الشمال تتضمن خطة مهمة للمشاريع والنشاطات التي تعود بالجدوى والمنفعة الاقتصادية لهذه المنطقة، والمتابعة والتنسيق مع مختلف الوزارات والمصالح والمؤسسات العامة والبلديات والمنظمات والهيئات في سبيل التحضير للمشاريع التي تتفق مع الأهداف الإنمائية لمنطقة الشمال وإعداد دراسات الجدوى اللازمة لهذه المشاريع".

ويضيف القرار الحكومي أنّ "الفريق يضع تقريراً دورياً كلّ ستة أشهر يتضمن تفصيلاً لمراحل العمل والتوصيات والاقتراحات على أن تعرض المواضيع اللازمة على مجلس الوزراء عند الاقتضاء".

No description available.

مسيرة لا توحي بالتفاؤل

لا توحي مسيرة الرئيس ميقاتي مع مثل هذه المشاريع بالثقة، بل إنّ الترجيح هو للشكّ والتساؤل عن أسباب إنشاء هذه الهيئة في هذا التوقيت، وهل هي استباق لاحتمال وجود تمويل لمشاريع ستأتي من خلال الصندوق السعودي الفرنسي أو غيره للشمال، ولطرابلس تحديداً، وبالتالي فإنّ دولته يريد استباق هذه المشاريع بتشكيل فريق وزّع أعضاءه على الجهات السياسية الفاعلة في الشمال، ويريد من خلاله الإمساك بمسار هذه المشاريع المحتملة والسيطرة عليها والتحكّم بتوظيفاتها واستثمارها سياسياً؟

هذا السؤال أكثر من مشروع، بل وواجب، بعد تجارب أهل طرابلس مع الرئيس ميقاتي وبقية نواب السلطة، خاصة أنّه جاء في ظلّ انكفاء الجميع عن تحمّل مسؤولياتهم تجاه الكوارث التي تغرق فيها المدينة..

من حقّ أبناء الفيحاء الغارقين في الظلام أن يسألوا إذا كانت "نور الفيحاء" وهماً وصندوق ثمار دعاية فارغة، فلماذا لا يكون فريق العمل الجديد إطاراً جديداً للتخدير أو للافادة من حقوق طرابلس المنتظرة في مشاريع التنمية، كما يفعل أركان السلطة في العادة؟

لم يوحِ سلوك الرئيس ميقاتي في الأزمات الأخيرة بأنّه معنيّ بمآسي مدينته، وخاصة في ما يخصّ كارثة قارب الموت، كما أنّه لم يُظهر جهداً حقيقياً لمعالجة أزمة المولدات وهو رئيس الحكومة، ولم يتقدم بأيّ مبادرة للتخفيف من أوجاع الناس وما ينتظرهم من تحديات قاسية في المجالات الصحية والتربوية والاجتماعية والمعيشية إجمالاً..

هذا التقييم لا بدّ منه قبل الدخول إلى مقاربة فكرة تشكيل فريق التنمية الجديد للشمال، وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّه في حال كانت الفكرة نقل المحاصصات السياسية إليه، فهذا يعني الفشل المسبق ولا حاجة لاستكمال النقاش.

إيجابيات لا يجب إنكارها

في المقابل، لا يمكن شطب إيجابيات موجودة لدى الرئيس ميقاتي وإن كانت قد تراجعت في ظلّ تفاقم الأزمات وغيابه عن معالجتها، لكنّها موجودة ومن غير الإنصاف تحميله وحده مسؤولية كلّ الأزمات مع كونه شريكاً في المسؤولية عن بعضها بشكل لا يمكن التبرّؤ منه.

يجب الاعتراف أيضاً أنّ باستطاعة الرئيس ميقاتي جذب الكثير من الجهات المانحة وبإمكانه وضع قواعد تعاون متماسكة معها لصالح طرابلس والشمال، ولا شكّ أنّ تشكيل الفريق التنموي بغطاء حكومي خطوة هامة، شرط أن تتوافر الشفافية وأن يُفتح الباب لأهل الاختصاص في تقديم ومتابعة المشاريع لتأتي استجابة لحاجات الناس في ظلّ الأزمة، لا أن تنزل عليهم بشكل أعمى وفق تصورات فوقية، وبالتالي لا تحقّق الغاية التنموية والاجتماعية منها.

عوامل النجاح: الشفافية والمشاركة المختصة

لا يمكن الاعتراض على خطوة الرئيس ميقاتي من حيث المبدأ، بل يجب تشجيعها واحتضانها وتقديم الدعم المعنوي والعملي لها كلٌ في مجاله، لكن يجب أن يترافق ذلك مع خطوات تحقيق الثقة، وأهمها:

ــ أن يكون عملها مُعلناً ومتاحاً أمام الرأي العام، لأنّ غياب الشفافية سيفتح أبواب الشك والتساؤل عن المصداقية.

ــ أن يجري التشاور واستفتاء المجتمع المحلي حول الإطار العام للمشاريع والتأكد من جدواها، فمعظم مشاريع طرابلس، إن لم نقل كلّها، كانت تعاني من النقص في الرؤية والإساءة في التنفيذ، وهذا ما أفقدها قيمتها وأسقط آثارها الإيجابية المفترضة.

ــ أن يكون التفاعل وإعطاء الرأي من أهل الاختصاص قائماً، من دون عوائق وأن لا يجري قمعه بتبريرات غامضة وملتبسة، فإغلاق المجال على التعليق والنقد البنّاء يجعل العمل أصمّاً وأعمى عن تدارك الثغرات المحتملة.

ــ أن تفتح هذه المشاريع فرصاً عادلة أمام أبناء الشمال للعمل والإنتاج وأن لا تخضع للمحاصصات القافزة فوق الحقوق والكفاءة.

ــ أن هذه المشاريع تقع جغرافياً في نطاق طرابلس الكبرى، لكنّها مشاريع ذات طابع وطني ينبغي أن تكون متاحة لأكبر قدر من المشاركات والشراكات الاستثمارية والتنموية.

مشاريع عاجلة للتنفيذ: مؤشر الجدية والقدرة

قبل الدخول في طرح المشاريع الكبرى والبحث في الاستراتيجيات التنموية، تبرز بعض المشاريع التي تعطي إشارات جدية للعمل وتنفيذها أو استكمالها لا يحتاجان إلى كبير جهد ومال، منها:

ــ سوق الخضار الجديد، الذي مضى على إنجازه سنوات طوال ولم يُفتتح بسبب التناهش السياسي والمصلحي الضيِّق المرتبط بإدارته واستثمار بعض مرافقه، والذي بذلت غرفة التجارة وقيادة الجيش وخاصة العقيد نزيه البقاعي جهوداً استثنائية لإنهاء كلّ العراقيل التي تحول دون تشغيله، وبقي عالقاً بسبب الصراع داخل بلدية طرابلس.

ــ المشروع الثاني الممكن التنفيذ هو مشروع إهراءات الحبوب في مرفأ طرابلس، والقابل للتمويل عربياً والجاهز من النواحي التقنية والقانونية.

ــ المشروع الثالث، وهو يتمتع بأهمية كبرى وله صفة العجلة والضرورة، هو مشروع "فرصة" الذي أطلقته جمعية "المنهج" بالتعاون مع "تجمع أم النور" لعلاج المدمنين على آفة المخدِّرات، وقد هيّأت جمعية المنهج الأرضية المطلوبة من حيث توفير المباني اللائقة والبيئة المناسبة لعمل المشروع الذي لا يُعتبر مركز علاج مجرّداًن بل له صفة الشراكة الوطنية الإسلامية المسيحية ومثالاً على التعاون والتكامل بين الجمعيات الإسلامية والمسيحية في التنمية.

ــ الأولوية الرابعة: دعم القطاع الصحي، من خلال تعزيز وضع مستشفى طرابلس الحكومي، ومراكز الرعاية الصحية الأولوية في المدينة، وهي المراكز التي تقوم بأدوار حيوية متقدمة في ظل الأزمة الخطرة التي تطال اللبنانيين، وخاصة في المجال الصحي.

ــ الأولوية الخامسة: يواجه اللبنانيون عموماً وأبناء الشمال خصوصاً خطر انهيار المنظومة الجامعية وانقطاع أجيال بكاملها عن التخرّج والانطلاق إلى سوق العمل في لبنان أو الخارج، وهذا سيُحدث فراغاً شديد الخطورة في سنوات قليلة، لهذا يجب العمل على تأمين الدعم لأكبر عدد ممكن من طلاب الجامعة اللبنانية لضمان التحاقهم بدراستهم، لأنّه يجب معالجة عجز العائلات عن تسجيل وإرسال أبنائها إلى الجامعة مع تدهور أوضاع الأغلبية الساحقة من المواطنين، وهذا يستوجب دراسة عناصر: التسجيل والنقل والغذاء.

ــ الأولوية السادسة: معالجة إشكالية غياب النقل العام أو المشترك، وهذا يأتي على خطين:

ـ مراجعة وزارة الأشغال العامة والنقل بشأن باصات الهبة الفرنسية وحصة الشمال منها والعمل على تسريع استلامها وتشغيلها.

ـ التعاون مع القطاع الخاص في مبادراته التي تهدف إلى تسهيل الانتقال على المواطنين، ومنها على سبيل المثال مبادرة "تريبولاين" التي انطلقت على خط طرابلس الكورة وأثبتت جدواها ويمكن التعاون لتوسيع نطاقها.

هذه النماذج من المشاريع تصلح لأن يفتتح الرئيس ميقاتي أعمال فريق الإنماء بها، وبذلك يعطي إشارة إيجابية لإمكانية الانطلاق نحو مشاريع أكبر حجماً وأهمّ أثراً.

دبوسي: ضمانة للمصداقية والتكامل مع رئاسة الحكومة

اللاّفت في القرار أنّه تضمن أن يكون الفريق برئاسة رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي وفي حال غيابه ينوب عنه السيد توفيق دبوسي.

يجب الاعتراف هنا بأنّ هذا البند يوحي بالثقة والجدية، لأنّ وجود الرئيس دبوسي في موقع القرار ضمن الفريق يضمن حصول التوازن والمصداقية ويؤكد إرادة الرئيس ميقاتي بالعمل الفعّال وباتخاذ ما يلزم لتحقيق ما يمكن تحقيقه فعلاً من التنمية لطرابلس الكبرى.

يعرف الجميع أنّ توفيق دبوسي يحافظ على مسافة ذهبية من الجميع، ومن موقعه في رئاسة غرفة طرابلس الكبرى، كما يُحِبّ أن يسميها، أقام علاقات بنّاءة مع مختلف الأفرقاء للحفاظ على مساحة آمنة لعمل الغرفة، ولإبقاء الباب مفتوحاً أمام فرص التنمية، وهنا تكمن أهمية وجوده نائباً لرئاسة فريق إنماء الشمال، نظراً لكونه موضع ثقة رئيس الحكومة والمجتمع المدني وسائر المعنيين، وباستطاعته أن يقوم بمهماته كصانع للتنمية مؤتمن عليها.

دور محوي لأعضاء الهيئة

ولا شكّ أنّ دور الأعضاء في إنجاح هذه الهيئة هو دور أساس، لأنّهم أعمدتها والقادرون على تكوين الرؤية العامة لها، وهذا يفرض عليهم إعطاء وجودهم في الهيئة الاهتمام المطلوب، ونقل حاجات مناطقهم وصياغة أولوياتها بحيث تكون الهيئة مساحة العلاج الصحيح للأزمات.

دعوة لملاقاة الفريق بالإيجابية والتعاون

يبقى أنّ أهل الاختصاص في مجالات التنمية المختلفة مدعوون لمواكبة هذا الفريق والتطوّع لتقديم ما لديهم من خبرات وأفكار ومشاريع ورؤى تسهم في تسريع عجلة العمل وفي إعطائه النضوج اللازم في أسرع الأوقات، وتتيح للجهات المانحة الاطِّلاع على الحاجات الفعلية للمناطق ووضع ما يلزمها من مشاريع وخطط.

هذه الإيجابية ضرورية رغم تجارب الفشل السابقة، ونقول بكلّ صراحة إنّ أي انتكاسة لهذه التجربة ستكون لها عواقب وخيمة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وفي حال النجاح، فإنّ الحسنات يذهبن السيئات.. ويتجاوزن عن التقصير.