بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 آذار 2021 12:00ص العلاَّمة القانوني الدكتور صُبْحي المَحْمَصانِي (1909-1986)

د. صبحي المحمصاني د. صبحي المحمصاني
حجم الخط
لَئِنْ كانَ البدرُ لا يكتملُ إلاَّ مرَّةً واحدةً في الشَّهرِ، إذْ يَسْطَعُ نورُهُ على الأرضِ، ماحِقاً العَتْمَةَ وسوادَها؛ فَيُهَلِّلُ النَّاسُ لإشراقِهِ هذا، ويُقيمونَ ليالي الأُنْس والفرح؛ فإنَّ بُدورَ أَهْلِ العِلمِ لَيْسَت بِهذا الكَرَمِ الفيَّاضِ على الإطلاقِ، لا في ظهوراتِها ولا في تَجَلِّي أنوارِها وسطوعِ بيانِ بهائِها وانْكِشافِ أفضالِها.

بُدورُ أهلِ العِلمِ عزيزةٌ؛ فلا تظهرُ في كلِّ حينٍ، وكأنَّها شديدةُ الاقتناعِ بمبدأ الإمام الغزالي، الذي قالَ مرَّةً بـ «المَضْنونِ بِهِ على غَيْرِ أَهْلِهِ». ولقد كانَ لِلُبنان أنْ يكونَ مرَّةً، مِنْ أهلِ رؤيةِ بَدْرِ عِلْمٍ قَلَّ نَظيرُهُ؛ وأنْ يَصيرَ هذا البدرُ شمسَ مَعرِفَةٍ، ما بَرحَتْ ساطعةً في فضاءاتِ الفِكْرِ في لُبنانَ والبلادِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، بَلْ والعالَم. وعسى أنْ يَهتديَ اللُّبنانيُّون اليومَ، بما كانَ مِن أنوارِ هذا البدر/الشَّمس؛ وتعودُ حياتُهم، كما وجودُهم، إلى أهبةِ استقبالِ بُدورٍ للعِلمِ والثَّقافةِ والفِكْرِ الرَّاقي، ما برحنا، جميعاً، نَعْطَشُ إلى وجودِهِم، وما فَتِئْنا نَسْعى إلى ارتِواءٍ مِن فُيوضاتِ عطاءاتِهِم.

بَدْرُنا، اليوم، هو العلاَّمَةُ القانُونِيُّ، والمُحامي الألْمَعِيُّ والقاضي العادِلُ، فضلاً عن السِّياسيِّ الذي ساهَمَ في وَضْعِ الأُسُسِ القانونيَّةِ والمَدَنِيَّةِ، خلالَ مراحِلَ نَشْأةِ الدَّولةِ اللُّبنانيَّةِ؛ ولا تزالُ كتاباتُهُ في الفِقهِ الإسلاميِّ القانونيِّ، تُعتَبَرُ مرجعاً مَوْثوقاً لِعُلَماءِ القانونِ والباحثين في هذا المجالِ؛ ناهِيكَ بأنَّهُ، كانَ مِن كِبارِ المُحاضِرينَ مِنْ على منبَرِ «المركز الثَّقافيِّ الإسلامي»؛ إنَّهُ «الدكتور صُبْحِي المَحْمَصانِي».

عائلة «المحمصاني»، من الأسر البيروتيَّة، ذات الأصول المصريَّة؛ ولها إسهاماتها العريقة في المجالات الثَّقافيَّة والقانونيّةِ والوطنيَّة. من أعلام هذه الأسرة، الشيخ «عمر المحمصاني»، الذي أسس، في النصف الثاني من القرن التَّاسع عشر في بيروت، «المكتبة الحميديَّة»؛ وكانت، هذه المكتبة، فضلاً عن كونها مقصداً للمهتمين بالكتاب، مجمعاُ ثقافيَّاً عامراً، يلتقي في رحابه كثير من أهل العلم والثقافة في ذلك العهد. ومن أعلام آل المحمصاني، الشَّيخ «أحمد المحمصاني»، الذي عمل مدرِّساً في مكتب «الحقوق العثماني» في بيروت، أواخر القرن التَّاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ كما تولَّى شرح مجلَّة الأحكام العدليَّة، وكان عضواً في «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، وقد أسندت إليه، مهام «رئاسة لجنة المدارس» فيها. ومن الروَّاد في عالم دراسة الحقوق، من آل المحمصاني، يبرز «محمود المحمصاني»، الذي قد يكون من أوَّل من حملوا شهادة الدكتوراه في الحقوق، قبل أن يُعلَّق، سنة 1916، شهيداً، مع أخيه «محمَّد»، في ساحة البرج في بيروت، بأمر من «جمال باشا»؛ الوالي العثماني على سوريا الكبرى، بسبب نشاطاتهما الوطني ضدَّ التَّتريك.

وُلِدَ صُبحي المَحْمَصانِي، في مدينة بيروت، يوم الجمعة، الواقع فيه 29 كانون الثَّاني (يناير) سنة 1909؛ والده محمَّد رجب المحمصاني، ووالدته عائشة الخوجه؛ فنشأ في كنف عائلة بيروتيَّةٍ محافظة، عُرِفَت بالإقبال على العلم والانغماس في الثَّقافة.

تلقَّى الفتي صبحي المحمصاني تعليمه، في المراحل الابتدائيَّة والإعداديَّة والثَّانويَّة، في المدرسة الإعدادية التَّابعة للكليَّة الإنجيليَّة السُّوريَّة، المعروفة اليوم بـ «إنترناشونال كوليدج IC»؛ وقد تخرّج فيها سنة 1924، بتفوُّق خوّله شرف إلقاء كلمة صفِّه في حفل التَّخرُّج النِّهائي.

انتسب الشاب صبحي المحمصاني إلى كلية الحقوق، التَّابعة لجامعة ليون في فرنسا، ونال منها شهادة الإجازة في الحقوق، وتبعها بشهادة الدكتوراه في القانون سنة 1932. لم يكتفِ من العلم بكل ما حصَّله؛ فالتحق بكلية الحقوق في «جامعة لندن»، ونال منها شهادة البكالوريوس في القانون الإنكليزي؛ وأصبح، بذا، ضليعاً بالقوانين والأنظمة المعمول بها في النِّظام التَّشريعي الفرنسي اللاَّتيني والنِّظام التَّشريعيِّ الأنكلوسكسوني.

بدأ الدكتور صبحي المحمصاني حياته المهنية في القضاء اللُّبناني في سنة 1929، زمن الإنتداب الفرنسي على لبنان، بصفة «كاتب» في المحكمة؛ وكان يتابع، في الوقت عينه، تعليمه العالي في القانون. التحق، بعد ذلك، بسلك القضاء، وتدرّج حتى أصبح «مستشارا» في «محكمة الإستئناف المختلطة» في بيروت؛ وصار، فيما بعد، رئيساً لـ «الغرفة المدنيَّة» في «محكمة الإستئناف والتَّمييز»، وكانت آنذاك المحكمة العليا في البلاد.

تزوج المحامي، صبحي المحمصاني، في سنة 1940 من «عصمت عبد القادر انكدار»؛ ورزق الزَّوجان بأربعة أولاد هم «غالب» (1941) و«مالك» (1944) و«ماهر» (1947) و«هاني» ((1956). أتقن صبحي المحمصاني العربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة، وأجاد القراءة بالألمانيَّة؛ كما كان من هواياته العزف على الكمان والعود، فضلاً عن جمع الطَّوابع البريديَّة.

اختار القاضي صبحي المحمصاني التَّقاعد المبكّر من السِّلك القضائيِّ، إذ قدَّم استقالته منه، نهاية سنة 1946؛ ليبدأ حياة مهنيَّة جديدة، في مجال المحاماة.

أسّس، الدكتور المحامي صبحي المحمصاني، مطلع سنة 1947، مكتبه في بيروت لممارسة المحاماة؛ وكان أن حقَّق فيه نجاحات بارزة، واستمر في تلك المهنة حتَّى وفاته سنة 1986. ولقد اختير الدكتور صبحي المحمصاني، خلال هذه المرحلة، حكما ورئيسا للجان تحكيميَّة في بعض أبرز القضايا الحقوقيَّة والقانونيَّة التي تم عرضها للتَّحكيم؛ كما عُيِّنَ في سنة 1944، بصفة مستشار قانوني، عضوا في الوفد اللُّبناني الرَّسمي، إلى مؤتمر تأسيس «جامعة الدُّول العربيَّة»؛ الذي انعقد في الإسكندرية بمصر. وعيّن، من ثمَّ، في سنة 1945 بالصِّفة عينها، في الوفد اللُّبناني إلى المؤتمر التَّأسيسي لـ «منظمَّة الأمم المتَّحدة»، الذي انعقد في سان فرانسيسكو، الولايات المتَّحدة الأميركية.

ساهم الدكتور صبحي المحمصاني في تحديث التَّشريعات اللُّبنانيَّة وإنشاء مؤسَّسات الدَّولة، من خلال عضويَّته في «اللَّجنة العليا» التي عيَّنها فخامة الرَّئيس فؤاد شهاب سنة 1958. فاز صبحي المحمصاني في دورة الإنتخابات النيابيَّة لسنة 1964، وصار عضواً في «المجلس النِّيابيِّ اللُّبناني»، عن العاصمة بيروت لمدة أربع سنوات؛ وعُيِّن سنة 1966، وزيرا للاقتصاد الوطني، في حكومة دولة الرَّئيس عبد الله اليافي، واستمرَّ في هذا حتى سنة 1968. وحازت مساهمته هذه على التكريم من قبل الجامعة الأميركية في بيروت من خلال المعرض الذي أقامته سنة 2013 تكريما لرؤساء وأعضاء وفود سائر الدول العربية ممن درسوا في الجامعة أم تخرّجوا منها.

كانت للدكتور صبحي المحمصاني نشاطات أكاديمية واسعة امتدت من ثلاثينات القرن العشرين، حتَّى أواخر سبعيناته. فلقد انضمَّ الدكتور المحمصاني، سنة 1936، إلى الهيئة الأكاديميَّة لـ «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»، أستاذا محاضراً في «القانون الرُّوماني» و«الشَّرع الإسلامي» و«قوانين الدُّول العربية»؛ واستمرَّ في هذا حتى سنة 1964؛ وكان، خلال المرحلة عينها، أستاذاً لمقرَّرات «الأنظمة التَّشريعيَّة المقارنة في الدُّول العربية»، في «كليَّة الحقوق»، بـ «جامعة القدِّيس يوسف»، في بيروت.

ساهم الدكتور صبحي المحمصاني، في مطلع ستينات القرن العشرين، في تأسيس «كليَّة الحقوق» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»؛ وكان من أوائل الأساتذة الذين تولّوا التَّعليم فيها، بتدريسه مادَّة «الشَّريعة الإسلاميَّة». ولا يقف الأمر عند هذا الحدِّ الكبير من النَّشاط الأكاديمي، إذ درَّس الدكتور محمصاني، مقرَّرات «القانون» في «كليَّة الحقوق» في «جامعة بيروت العربيَّة»، منذ تأسيسها؛ ودرَّس، كذلك، مواد «القانون» في «المدرسة الحربيَّة» في لبنان. وبذلك وخلال فترة معينة كان المحمصاني يحاضر في خمس جامعات في آن واحد.

زار صبحي المحمصاني عدة بلدان، منها «الولايات المتَّحدة الأميركيَّة» و«هولندا» و«فرنسا» و«إيطاليا» و«مصر» و«العراق» و«باكستان» و«إيران» و«تونس»، أستاذا محاضرا و مشاركاً في المؤتمرات الدوليَّة؛ ولعلَّ من أبرز أعماله، في هذا المجال، أنه ألقى في «معهد القانون الدَّولي في لاهاي»، سنة 1966، سلسلة محاضرات عن القانون والعلاقات الدوليَّة في الإسلام.

انتخب المحمصاني عضوا في مجامع عدة منها مجمع اللغة العربية في دمشق، وفي مجمع اللغة العربية في القاهرة وفي المجمع العلمي العراقي في بغداد.

أصبحت مؤلفات الدكتور صبحي المحمصاني من المراجع الأساسية بموضوع الشرع الإسلامي، إذ امتلأت الكتب والمقالات العلمية في هذا المضمار بالإشارات إلى تلك المؤلّفات.

أغنى العلّامة الدكتور صبحي المحمصاني الدَّوريات والمحافل الحقوقيَّة والقانونيَّة والثقافيَّة بعدد ضخم من المقالات والمحاضرات وأوراق العمل؛ تابع معالي العلاَّمة الدكتور صبحي المحمصاني، نشاطاته الأكاديميَّة والقانونيَّة، في مجالي «المشورة القانونيَّة» والتَّحكيم الدَّولي» في لبنان والخارج، إبَّان سنوات الاقتتال الأهلي التي حلَّت على لبنان منذ سنة 1974؛ غير أنَّه توقَّف عن هذا، مع حلول سنة 1983؛ إذ جرى اكتشاف إصابته بسرطان الرِّئة، الذي أدَّى إلى وفاته يوم الأربعاء، الواقع فيه العاشر من شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1986، في باريس؛ حيث كان يتابع العلاج الطبِّي.

عُرِفَ العلّامة الدكتور صبحي المحمصاني، باحثاً متعمِّقاً في موضوعات «الشَّرع الإسلاميِّ، كما اشتُهِرَ بانفتاحه الحضاريِّ الثقافيِّ على سائر الأديان والحضارات، إذ يكثر الإستشهاد بآرائه في الدراسات والنقاشات المتعلقة بالإسلام الليبرالي.

تابع معالي العلَّامة الدكتور صبحي المحمصاني، نشاطاته الأكاديميَّة والقانونيَّة، في مجالي «المشورة القانونيَّة» والتَّحكيم الدَّولي» في لبنان والخارج، إبَّان سنوات الاقتتال الأهلي التي حلَّت على لبنان منذ سنة 1974؛ غير أنَّه توقَّف عن هذا، مع حلول سنة 1983؛ إذ جرى اكتشاف إصابته بسرطان الرِّئة، الذي أدَّى إلى وفاته يوم الأربعاء، الواقع فيه العاشر من شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1986، في باريس؛ حيث كان يتابع العلاج الطبِّي.

----------------

* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي