هامةٌ من الهمم العالية التي نفتخر بها في لبنان وفي العالم الإسلامي، يعود إليه الفضل في تنشئة جيل من المشايخ الذين تربّوا على حب المطالعة والاهتمام بالثقافة والانفتاح على كافة الآراء والأفكار.
كأنه الإمام أبو حنيفة في مجلسه، يناقش، يحاور، يقنع، يردّ، يشجّع طلابه على الحوار، يمدح من أصاب منهم دون أن يجرح من يخطئ. إن جلست في مجلسه سيفاجئك بنظراته وحركاته الدؤوبة من أجل إكرامك وإشعارك بأنك صاحب الدار وأنه الضيف لديك.
عندما عاد من دراسته الأزهرية في القاهرة، عيّنه سماحة المفتي الأكبر الشهيد حسن خالد مديراً لأزهر لبنان في العام الدراسي 1968/1969، ولعمري كم أصاب سماحته في هذا التعيين وكأنه يعلم بأن من أراد الإصلاح في الجهاز الديني عليه أن يبتدأ من النواة وهم طلبة العلم الشرعي.
في أول لقاء معه دخلت الى مكتبه وقد تجاوزت بقليل العشر سنوات فإذا به يجلس بمقربة من الشهيد المفتي الشيخ حسن خالد، بادرني المفتي ببشاشته المشهودة وبحنان أبوّته المعهودة عن اسمي ودراستي وعن سبب رغبتي في الدخول إلى الأزهر، لم يجبه لساني وإنما رقرقة دموعي كانت كفيلة بقبولي.
أثناء دراستي في الأزهر لم أكن رغم هدوئي الذي جبلته الطبيعة في شخصيتي إلّا ثائراً منتفضاً، فكان الشيخ خليل الميس يقابل ثورة الشباب المنتفضة بداخلي، بزرع محبة القراءة لديّ، فسرعان ما حثّني وزملائي في الدراسة إلى شراء مجموعة كتب عباس محمود العقاد، فأقبلنا عليها بنهمٍ حتى انطبع فينا أسلوب العقاد في البحث والقراءة والكتابة، ولكي يخفف اندفاعنا الجيّاش الثائر أحالنا إلى مجموعة الكتب التي ألّفها اللواء الركن محمود شيث خطاب، وما أن انتهينا من قراءتها وكتابة الأبحاث في مواضيعها خلال العطل الصيفية، أحالنا إلى مجموعة أخرى من كتب الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف المصري قديما.
طموحه الكبير اصطدم بروتينية المرجعية المركزية، فلم يرضَ أن تغلّ يداه بانتظار قرارات طال أمد توقيعها فأنشأ أزهر البقاع وصندوق الزكاة وإذاعة القرآن الكريم، وابتدأت منذ ذلك الوقت ورش البناء والتأسيس والتجديد في المؤسسات الدينية في البقاع. ما زالت كلمته المشهورة تسمع صداها في بهو دار الفتوى عندما قال: «أنا في البقاع لست تابعاً لأحد ولا أطيع فوق سماء البقاع إلّا الله تعالى».
عندما انتقلت إلى محكمة شتورة الشرعية، كان يتردد إليّ بعض السفراء الأجانب، ووفود من أوروبا ومقدمو برامج تلفزيونية من فرنسا وسويسرا وإسبانيا، فكنت أحرص على لقائهم بسماحة المفتي الشيخ خليل في مكتبه في أزهر البقاع، وكانوا يتفاجأون في كل مرة بترحيبه بهم بحفاوة لم يعتادوا عليها في بلادهم وبدعوته الإلزامية لهم لتناول الغداء معه.
مهما كان حديثي عنه فأنا أشعر بالتقصير اتجاهه، فلولاه لم أكن أنا، ولولاه لم يكونوا هم الذين يتبوؤون حالياً المراكز العليا الدينية والرسمية والتعليمية. كل من قرأ سيرته ووقف على مسيرته من المفتين والمسؤولين الدينيين سيشعر بالخجل لعظيم لما حققه لأهل البقاع وللبنانيين جميعاً ولضعف ما قدّموه وحققوه في مناطقهم وللبنان، مستثنياً ما قام به صديقي الشيخ غسان اللقيس في جبيل وجوارها، وما أسّسه وبناه من مساجد ومدارس ومستوصفات خيرية.
أيها المربّي الكبير، أيها العالِم الفقيه، أيها الهامة المرتفعة، لقد أتعبت من أتى بعدك - ليس على مستوى البقاع، فمن أتى بعدك ما زال يشق طريقه نحو النجاح مقتدياً بسيرتك ومنهجك - وإنما على امتداد مؤسسات الإفتاء في لبنان والعالم، رحمك الله يا أستاذنا ومرشدنا الشيخ خليل الميس في ذكرى وفاتك السنوية، لك منا كل تقدير ومحبة ووفاء وذكرى عطرة.